مقالات متنوعة

جريدة بريطانية : ما يحدث الآن هو أقرب لتصفية الحسابات والثأر من العسكر كمؤسسة..ما مبررات التيار الرافض المبادرة الأممية لحل الأزمة السودانية؟


ما مبررات التيار الرافض المبادرة الأممية لحل الأزمة السودانية؟
ما يحدث الآن هو أقرب لتصفية الحسابات والثأر من العسكر كمؤسسة نكلت بالقيادات القديمة

تقاطعت خيوط المبادرات السياسية السودانية، من مبادرة جامعة الخرطوم التي ضمّت أكاديميين ومفكرين، إلى مبادرة وساطة الحكماء، وصولاً إلى مبادرة الأمم المتحدة التي قدّمها مبعوث البعثة الأممية السياسية إلى السودان “يونيتامس” فولكر بيرتس.

وفي هذه المبادرة التي يراها البعض مخرجاً من المشهد الضبابي والتهديد بأزمات قادمة أشد ضراوة إلى الانتقال نحو ديمقراطية متماسكة، اجتهد المجتمع الدولي كي يبلور من جديد مطالب الشارع، ويحيلها إلى أطراف الخلاف لحلها بواسطة الحوار، لكن من دون جدوى.

ولا يزال السودان مهماً، بسبب موقعه في منطقة مشتعلة، وعلى مفترق قارات ثلاث يمكن أن يكون بيئة مواتية للإرهاب وتجارة البشر. وقد شهد، ولا يزال حالات اللجوء إليه أو عبره. وهذا ما يُفسّر اهتمام المجتمع الدولي، خصوصاً الولايات المتحدة، بالأزمة السودانية الحالية، حتى مع تحول تركيزها إلى مناطق أخرى من العالم.

يعبّر رفض تيارات على رأسها “تجمع المهنيين السودانيين” ومن خلفه الحزب الشيوعي، ولجان المقاومة، وحزب البعث السوداني هذه المبادرة، عن إصرار على الرجوع إلى المربع الأول.

وبإلقاء نظرة على هذا الرفض، فإنه يمكن إرجاعه إلى مواقف شتّى وليس موقفاً واحداً، نابعة عن تيارات منقسمة، ونُسخ أخرى من أجسام القوى السياسية التي شاركت في الفترة الانتقالية الأولى، وهي التي قُيدت فيها مطالب الشعب السياسية وقواه المدنية بهذه المجموعة قبل عزلها، ثم ما لبثت أن خرجت المطالب ذاتها على يد التيارات الرافضة الآن.

تضارب المبادرات

بعد انشقاقها من تحالف “قوى إعلان الحرية والتغيير”، قدّمت مجموعة من القوى السياسية في التحالف “ميثاق التوافق الوطني لوحدة القوى السياسية”، في 2 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ووقعت عليه فصائل ومجموعات سياسية وإدارات أهلية.

لكن، في المقابل أكد المجلس المركزي، القيادة السياسية العليا لتحالف “قوى إعلان الحرية والتغيير” في الحكومة الانتقالية وقتها، عدم وجود أي صلة له بهذه بالمجموعة التي قدمت الميثاق.

ومن أبرز الموقعين عليه “حركة جيش تحرير السودان”، التي يرأسها حاكم إقليم دارفور، مني أركو مناوي، و”حركة العدل والمساواة”، بقيادة وزير المالية جبريل إبراهيم، وعدد من الأحزاب والكيانات الأهلية.

وفي 3 يناير (كانون الثاني) الحالي، طرح “تجمع المهنيين السودانيين” مقترحاً باسم “ميثاق استكمال ثورة ديسمبر المجيدة”، طالب فيها بإسقاط المكون العسكري وسلطته بشكلٍ تام، وأن يحصل رئيس مجلس الوزراء المدني على منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وتفكيك قوات الدعم السريع، وقوات الحركات المسلحة، ودمج أفرادها وفق معايير بالقوات المسلحة.

وهذا التيار المنادي بالوثيقة انشق عن تجمع المهنيين الموالي لحكومة الفترة الانتقالية في 2020، وكان قد رفض في وقت سابق الانضمام إلى الإعلان السياسي لوحدة قوى التغيير، واتهم مكون الحرية والتغيير (المجلس المركزي) بالحيدة عن أهداف الثورة، ويتصدّر حالياً الاحتجاجات مع لجان المقاومة الثورية في الأحياء، بينما حذر الموالي للحكومة من اختطاف التجمع على يد قوى حزبية.

ونشط التجمع المناوئ للحكومة بعد إجراءات 25 أكتوبر التي أقرّها الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، ولم يتراجع هذا التيار بعد الاتفاق السياسي الموقع بين البرهان ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وفي 8 يناير أعلن فولكر بيرتس، مبادرة الأمم المتحدة وهي عبارة عن مشاورات بين المدنيين والعسكريين على الجلوس إلى مائدة الحوار. وفي حين رحبت بها قوى دولية وإقليمية، وقوى إعلان الحرية والتغيير، رفضها تجمع المهنيين، بحجة أنها تطبّع مع المجلس العسكري، الذي يطالب بإزالته من الحياة السياسية والحكم في الفترة الانتقالية، متجاوزاً الاتفاق حسب الوثيقة الدستورية، ومتمسكاً باللاءات الثلاث: (لا مساومة، لا شراكة، لا تفاوض).

عثرات الانتقال

هناك عدة عوامل مثّلت عثرات، يمكن أن تحول دون التوافق حول “مبادرة فولكر”، أو تصعّب من تنفيذها، وشكّلت الفترة التي قضاها رئيس الوزراء المستقيل عبد الله حمدوك في الحكومة الانتقالية.

العامل الأول، أن استقطاب مؤيدين كُثر غير كافٍ لصناعة نظام سياسي مستقر، كما أنه لا يُضفي الشرعية على الحكومة الانتقالية، وهي حكومة مُعيَّنة بمكونيها المدني والعسكري، ولم يُنتخب فيها أحد، ما كان يدعو إلى إيجاد طرق أخرى نحو التوافق والاستقرار السياسي إلى حين إقامة الانتخابات.

والعامل الثاني، هو عدم مقاومة حمدوك لإغراء الخطاب على وسائل التواصل الاجتماعي، الذي ركّز على الإعجاب به كرمز سياسي فقط، دون قيامه بمهام كبيرة أو اتخاذ خطوات جادة نحو الانتقال الديمقراطي، بل لم يستطع حسم ما كان يجري من تجاوزات.

وبعد استقالته، حمّلته بعض القوى السياسية نتيجة ذلك جنباً إلى جنب مع مسؤولية المكون العسكري من إجراءات 25 أكتوبر، بسبب تراخيه وعدم اعتراضه أو إبداء رأيه فيما كان يدور من حوله.

أمّا العامل الثالث فهو إسراع الحكومة الانتقالية في الوصول إلى اتفاقية سلام جوبا في 3 أكتوبر 2020، الذي ظهر فيما بعد كاتفاق مبتور كونه لم ينطلق من نظام مستقر سياسياً، ولم يجئ بطريقة تدريجية، ولم يحرص على ضم كل القوى السياسية.

بل إنّ الأرضية المهزوزة التي وقف عليها هي ما سرعت من انهياره، وعدم التحاق بعض الحركات به مثل حركة تحرير السودان جناح عبد الواحد محمد نور، والحركة الشعبية لتحرير السودان جناح عبد العزيز الحلو، وهاتان الحركتان هما على رأس قوى عسكرية ناشطة خارج إطار الدولة، وعلى استعداد لتكون المعارضة المسلحة القادمة، التي يمكن أن تحوّل الخلافات الحالية إلى نزاعات عسكرية، أو أن تندلع صراعات أخرى تبدو كامنة وتحيلها إلى أزمات كاملة.

تحول القوى

لمعرفة أسباب هذا التحول لتيار قوى الثورة المكونة من تجمع المهنيين ولجان المقاومة يمكن النظر في تجربة التجمع كظاهرة سياسية، تعود في سياقها التاريخي السياسي والاجتماعي الأوسع والمعقد إلى جذور هذا التجمع في الحزب الشيوعي السوداني، وكيف تعاملت الحكومات العسكرية السابقة معه، وهي حكومة الفريق إبراهيم عبود، والعقيد جعفر النميري، والعقيد عمر البشير.

استبعدهم عبود لصالح الأحزاب الطائفية، بينما أعدم قادتهم النميري على إثر انقلاب ثانٍ نفّذه ضباط من الحزب على انقلابه. بينما نكّل بهم البشير، وفصل الحزب الشيوعي السوداني عن محيطه السياسي، فمكث في مرحلة الجمود العقائدي عند محطة السبعينيات. طارد نظام “الإنقاذ” قياداته، فكان زعيم الحزب محمد إبراهيم نقد يواصل نشاطه مختفياً “تحت الأرض” من عام 1994 إلى 2005.

وهكذا، نجد أن النظم العسكرية حالت بين القيادات وحاضنة الحزب الاجتماعية، فنشأ بون أيديولوجي واسع، كما اخترق العسكر تكتيكات الحزب، حتى كاد أن يتلاشى، فتراجعت جاذبيته وفشل في بلورة مشروع سياسي مواكب.

وبعد ثلاثين عاماً من المطاردة والتنكيل، لم يبق من مشروع اليسار سوى تصورات عن التغيير مختزلة في العداء للحكومة الانتقالية، وفي رفض مُضمرٍ للمشروع الديمقراطي، لكن بطريقة إدارة الصراع عن طريق القوى الثورية وتنسيقية لجان المقاومة، والشارع التائق للديمقراطية بإدخال الجميع في صراع مع الحكومة الانتقالية حتى صاروا ضد المكون العسكري والمدني معاً.

وظل سخط الحزب الشيوعي مفتقراً لسبل القوة اللازمة لتحقيق رؤيته، ما عدا الطاقة الثورية لدى الشباب، فلعب دوراً في تجسيد فكرة أن العسكر سينفردون بالسلطة، وصارت هذه الفكرة هي الهدف النهائي.

تبلورت رؤى الحزب الشيوعي في مرحلة ما بعد الثورة حول الانتقال الديمقراطي كشعار للمرحلة، فوجد نفسه يمارس نشاطاً من خلال الحاضنة الاجتماعية وباسم تجمع المهنيين، محافظاً على سياسة التخفي. مستفيداً من الحالة الثورية ومتكيفاً معها. مستفيداً من أنّ الشارع يتحرّك في سياق تهيمن عليه نزعة باغضة للنظام السابق والإسلاميين، وفاقد الثقة في الأحزاب السياسية الأخرى، فلم يكن تفاعله إلّا استغلالاً، فالرؤى بين الشارع الثائر وجمود التنظيم العقائدي تسير في اتجاهين متضادين.

تصفية الحسابات

بعد أن أعلن تجمع المهنيين السودانيين خروجه إلى المعارضة مضطراً بعد عام واحد من الثورة، فيما رأى أن التيار الموالي للحكومة الانتقالية متهافت على السلطة، يتصدّى قادته من قدامى النشطاء الشيوعيين لأدوار جديدة يقودون بها شباب الثورة في معاركهم السياسية القديمة عن طريق الميدان الحالي. فما يحدث الآن هو أقرب لتصفية الحسابات القديمة، والثأر من العسكر كمؤسسة نكلت بالقيادات القديمة.

وهذه التيارات ذات الجذور الأيديولوجية، هي قوالب ثورية مُهيئة منذ زمن للفعل الثوري، فعندما سعت إلى تغيير النظام السابق، لم تكن بيدها خطة لمرحلة ما بعد إسقاط البشير، وهي الطريقة ذاتها التي أتت بنتائج فوضوية في دول “الربيع العربي”.

سيظل تجمع المهنيين في مقعد المعارضة، وهو الذي بنى نشاطه على أساس مهاجمة الجميع مدنيين وعسكريين، فلا هو راضٍ عن مشاركة جزء منه في الحكومة، ولا هو مقتنع بوجوده في المعارضة والعمل على مراقبة الحكومة وليس إزالتها للجلوس مكانها.

وبهذا المنطق، فلن تكون هناك قوى سياسية يكون من شأنها إحداث توازن. وبما أن الممارسة السياسية السليمة تقتضي وجود معارضة، ففي السياق السوداني الراهن، تحتاج إلى معارضة قوية عليها التفاعل مع مطالب الشارع، لإيصالها عبر الآليات المؤسساتية.

سيؤدي الصراع بين القوى السياسية بمرور الوقت إلى استنفاد طاقتها وطاقة الشارع، الذي ربما لن يجد أمامه في النهاية غير حكم العسكر إن كان مستقراً وبدعمٍ دولي، ويفضّله على بؤس العنف والقتل في ظل حكومة هجين. وسيكون منطقياً تحول السعي المحموم نحو انفراد القوى المدنية بالسلطة دون ديمقراطية، فإن التلويح بحكم العسكر، كما يحدث الآن، يصبح السلاح الوحيد في أيدي من يملكون تحريك الشارع المُفعم بالطاقة الثورية.

صحيفة السوداني