مقالات متنوعة

القصة الكاملة عن “نجاة نجار” ملهمة من غير ميعاد! (1ـ2)

حسن الجزولي

• غياب إفصاح الشاعر عن شخصية الملهمة عمق التساؤلات حولها ورفع من درجات حب الاستطلاع نحو غموضها الساحر!.
• الشاعر يقر بأن من أحبها وملك قلبها وارتبط بها كان أصدق عاطفة منه وأشد تألقا!.
• اعتناء وردي بلحن الأغنية وضعها في مصاف أبرز أغنيات السودانيين العاطفية!.
• أقرب الناس إليها لم يكن يظن أن الأنباء التي تناقلتها الصحف عن حادث الرياض المأساوي يتعلق بملهمة من غير ميعاد!.
عندما كنت أتجاذب أطراف الحديث مع الصديق الشاعر محمد نجيب محمد علي، وصلت بنا المؤانسة لبعض شعراء الأغنية العاطفية وإبداعهم فيها، فتناولنا من بين هؤلاء الصديق التيجاني سعيد ـ وتربط صلة قرابة بين الشاعر والشاعر ـ أي بين محمد نجيب والتيجاني سعيد حيث هو ابن خالته، فنقلت له محاولاتي الفاشلة في الوصول لشخصية ملهمة التيجاني سعيد في رائعته (من غير ميعاد) وبأني حاولت معه كثيراً التعرف من خلاله على تلك الشخصية، إلا أنه لم يفصح عن أي شيء مستعصماً بالصمت، فأسر لي نجيب بأنه يعلم قليلاً عنها!،
وعندما طالبته بالمزيد من الايضاحات نفى أن تكون لديه معلومات مكتملة حول اسمها ومن تكون، سوى أنه يعرف أنها من بنات الحارة السادسة بمدينة الثورة، وقال أنه سمع (طراطيش كلام) بأنها تعيش خارج البلاد، والبعض يقول أنها تسكن حلفاية الملوك وآخرين يشيرون إلى أنها رحلت قبل سنوات طويلة، مشيراً لحوار صحفي أجراه مع الشاعر التيجاني الذي حاول فيه الكشف عن تلك الملهمة ولكنه فشل هو الآخر!، ودلني على الحوار المنشور بصحيفة السوداني.
في ذاك الحوار لم يفصح التيجاني ولم يشف غليلي، سوى أنه عمق من تساؤلاتي وأعلى من درجات حب الاستطلاع والتشوق والاصرار على سبر غور تلك الملهمة وغموضها الساحر!، فقد تركز جلً حديثه على معلومات عامة، قال فيها:ـ
نجاة نجار
(الفتاة التى كانت مصدر إلهامي في “من غير ميعاد” أحبها في ذات الوقت رجل آخر، تبين لي فيما بعد أنه كان أصدق عاطفة مني وأشد تألقا! فقد لفت انتباهها إليه أكثر مني وفاز بها عن رضائها، وهذا مؤشر لنجاحه وإخفاقي!،
كانت هذه الفتاة جارتنا وكانت تكبرني بسنين قليلة وقد أحببتها جملة وتفصيلاً أما هي فلم تكن تعبأ بي جملة وتفصيلاً، وقد توددت إليها ببعض الأشعار، فكأنما كنت أقدم إليها معادلات رياضية أو عبارات هيروغليفية!، وبذلت كل الجهد لتلتفت إلي فلم تفعل، لقد كانت هزيمة لي بكل المقاييس وكانت هي القصة العاطفية الثانية التي أحتسي فيها مرارة الحرمان، وفى اليوم الذي قدم فيه الأستاذ محمد وردى هذه الأغنية على الهواء مباشرة كانت هذه الفتاة تشاهد التلفاز في بيتنا مع أسرتي، فلما ذكر وردى اسمي قبل تقديم الأغنية التفتت إلي بدهشة شديدة وقالت لي هل أنت المقصود فقلت لها “طبعاً” فقالت لي وفيمن كتبت هذه الأغنية فقلت لها في واحدة من جاراتنا، فتبسمت ولم تزد على ذلك! وكانت هذه الابتسامة هي كل ما نلته من قصة حب وثقتها هذه الأغنية، شاع الخبر بعد ذلك أن التيجاني كتب هذه الأغنية في فلانة فكنت أحس أنها راضية بهذا الأمر ولكنها في الوقت ذاته لم تبد أية مشاعر إيجابية نحوى، فعلمت ساعتها أن الشاعر ولو كان النابغة الذبياني لا يمكن أن يستحوذ على قلب فتاة بشعره، ولو حدث ذلك فسيكون لإنسانيته فقط)!.
وهكذا تركني تيجاني أدخل في مغامرة البحث المضني عن ملهمته التي أدهشت كلمات القصيدة التي كتبها فيها مستمعيها عند تقديم وردي لها في العام 1968، وذلك لما تحمله من مضامين شعرية جديدة في المفردة وناعمة في الرومانسية، وهو ما حدى بوردي للاعتناء بلحنها حداً أصبحت فيه إحدى أبرز أغنيات السودانيين العاطفية!.
***
كان التاريخ نهايات العام 1980، يوم 23 من شهر أكتوبر تحديداً، وكانت مدينة مكة بالمملكة العربية السعودية تودع أخر وفود الحجيج في موسمهم المنتهي، كانت مدينة الطائف تعج بالسيارات وأبواقها، وشوارع المدينة تشهد ضجيجاً في حركة المرور، كان الزحام شديداً على الطرق الرئيسية، ومع ذلك كان الانسياب طبيعياً لحركة المرور، ولا شيء يعكر صفو الرحلة على الطريق السريع المتجه صوب مدينة الرياض، كانت الأسرة التي تستقل سيارتها والمكونة من الزوج وزوجته وابنتهما وابنهما إضافة لابن خالة الزوجة يتجاذبون أطراف الحديث، كانت مدينة الرياض هي وجهتهم حيث كان الزوج يعمل هناك.
وكان ابن عم الزوجة يقود سيارته أمامهم مباشرة، فجأة ينحرف سائق طائش سعودي الجنسية بعد أن أفلت منه مقود السيارة ولم يستطع التحكم في فرامل العربة نتيجة تناوله لحبوب مخدرة أثرت فيه بالكامل، ليصطدم بعربة الأسرة بقوة، لتكون النتيجة وفاة جميع أفراد الأسرة عدا الابن الصغير والذي بقي على قيد الحياة وهو يعاني حتى رحل هو الأخر ملتحقاً بأفراد أسرته، وذلك بعد مضي 8 ساعات بالمستشفى التي نقل إليها!.
في اليوم التالي كان الراحل ربيع شقيق الزوجة يستقل طائرة متوجه به في رحلة عمل إلى إيطاليا، وبينما كان يقلب صحف ذلك الصباح التي وفرتها مضيفة الطائرة للركاب، فإذا به يفاجأ بخبر الحادث البشع منشوراً بالبنط العريض والذي نزل عليه كالصاعقة وزلزل كل كيانه، بأن شقيقته نجاة عبد المعطي نجار علي 28 عاماً وزوجها مفتش الضرائب عمر محمود علي أحمد 33 عاماً وابنتهم لمياء (لولا) 8 سنوات وابنهم أحمد (حمادة) 6 سنوات ومعهم ابن خالة الزوجة دكتور أحمد عبد المنعم، قد رحلوا جميعهم في ذاك الحادث المؤسف والمفجع نتيجة لطيش مواطن سعودي!
كانت صحيفة الشرق الأوسط قد نشرت الخبر إلى جانب صحف سودانية أخرى وقرأ الناس الخبر، سعوديون وسودانيون عاملون سواء بالمملكة العربية السعودية أو بالسودان، إلا أن أياً منهم لم يكن يعلم أو يمر بخاطره مجرد خاطر، أن الزوجة الراحلة في الحادث نجاة عبد المعطي نجار أحمد، هي في واقع الأمر تلك الملهمة التي عناها الشاعر الرقيق التيجاني سعيد في أغنيته العاطفية الرومانسية (من غير ميعاد)!.
بل يؤكد شقيقها بكري نجار وهو يحكي لي كل التفاصيل أنه ربما حتى يوم الناس هذا فإن أي أحداً لا في أوساط الجيران أو الأهل أو المعارف وكذا زميلات الدراسة للراحلة نجاة يعلم بهذه الجزئية المتعلقة بأن شقيقته نجاة هي ملهمة الشاعر التيجاني سعيد في أغنيته (من غير ميعاد)!، عدا قلة من الذين يرتبطون بصلة قرابة مع الملهمة، منهم ابن عمها الدكتور عثمان نجار وشقيقها المرحوم المهندس ربيع وابن خالها عادل عبد الغفور، بما فيهم بكري نفسه والذي علم مؤخراً من ابن عمه عثمان!.
**
كان سعيي في رحلة البحث عن ملهمة (من غير ميعاد) مضنياً، نسبة لأنه لم تتوفر لي فيه أي معلومات كافية تعينني في البدء بالبحث، سوى أنها من بنات الحارة السادسة ورحلت قبل سنوات طويلة!، وبحاسة الصحافة الاستقصائية و (تحديها الجسور) عقدت العزم على الوصول لكامل سيرة الفتاة المعنية!،، أجريت اتصالات متعددة مع عدد من الأصدقاء الموثوقين الذين يقطنون الثورة وعلى معرفة جمة بالسكان فيها، وكان لا بد من الاتصال ضمن هؤلاء بالصديق صلاح بشير (ركب) لما له من همة عالية من جانب وتواصل معرفي مع أهل مدينة الثورة شيباً وشباباً، وهو من المعروفين فيها وحائز على ثقتهم ومحبتهم، طلبت منه البحث معي عن أسرة رحلت ابنتها قبل سنوات عديدة وعليه التركيز في البحث والسؤال عن منطقة الحارة السادسة تحديداً، دون أن أفصح له عن الشخصية التي أبحث عنها ومن تكون!، وربما سيندهش صديقي صلاح وهو يقرأ الآن هذا الفصل عن تلك الملهمة ويتعرف على من ساهم هو ومجموعته في وصولي لها، وكانت تلك المجموعة الشهمة من شباب الحارة السادسة قد أبدوا همة واستعداداً فطرياً طيباً لتقديم المساعدة، شباب نادي الأحرار بالحارة السادسة (ود الزين، مصطفى الأنصاري، ياسر الزين). وهكذا وبعد جهد وصلت لمنزل أسرة (الملهمة) وتأكدت من المعلومات التي بدأت تتوفر لي وتندلق أمامي رويداً رويداً، كان لا بد أن أتواصل مع أحد أشقائها فدلوني على شقيقها بكري، وبكري رجل الأعمال الناجح شخص شهم وأخو أخوان، تعرفت عليه عن قرب ومد لي يد المساعدة موفراً كل المعلومات المتعلقة بشقيقته وأسرتهم عن طيب خاطر بعد أن قرأ الجزء الأول من كتابنا (ملهمات)!.
قال بكري أنهم في الأساس من منطقة حي العرب بأم درمان وانتقلوا إلى الحارة السادسة واستقروا هناك بعد اكتمال بناء منزلهم الحالي، وأن شقيقته نجاة ولدت وترعرعت بحي العرب ودرست بمدرسة حي العرب الابتدائية والمتوسطة والعالي بمدرسة المهدية بالثورة، أشقائها كل من صلاح وربيع وأمين والسر وبكري، والشقيقات فريال وسامية وسهير وصباح وأمها آمنة ربيع السيد، يؤكد لي بكري بحسرة وحزن أن (الملهمة نجاة) كانت إلى جانب أنها ربة منزل ممتازة وترعى أسرتها الصغيرة وتعيش مع زوجها حياة هادئة مستقرة، فهي أيضاً تساهم في تواصل وارتباط العائلة بعلاقات قوية ووطيدة وتسعى في ذلك بشتى الطرق. زوجها درس الاقتصاد وكان يعمل مراجع قانوني في الضرائب بمؤسسة النقد السعودي بمدينة الرياض.

صحيفة اليوم التالي