عثمان ميرغني

السودان.. حالة ولادة متعسرة


السيد محمد أحمد المحجوب واحد من أشهر الساسة في تاريخ السودان، إذ تولى منصب رئيس الوزراء مرتين في الفترة من ( 1965 – 1969)، وكان مفكرًا، وخطيبًا مفوهًا ممتد الصلات مع أقطاب العالم العربي.

المحجوب كتب في ”مجلة النهضة“ السودانية التي كانت تصدر، مطلع ثلاثينيات القرن العشرين، مقالاً بدأه بعبارة لافتة للنظر: ( مضى من عمر السودان 33 عامًا لم ننجز فيها شيئًا..)، وبالحساب العددي للسنوات فقد اختار المحجوب، العام 1898، ليكون خط الصفر الذي يحسب منه الحصاد الوطني من الإنجاز في مختلف المجالات، وهو التاريخ الذي انهارت فيه الدولة المهدية ليبدأ بعدها تاريخ السودان تحت الاحتلال الثنائي.

والسؤال الذي ظل يحيرني: لماذا اختار المحجوب لخط الصفر الوطني البداية من الاستعمار، بدلًا من التحرر من الاستعمار، أي بالتحديد 26 يناير 1885، عندما استطاع الإمام محمد أحمد المهدي – وهو في عمر 40 عامًا فقط – أن يهزم أعتى قوة استعمارية في ذلك الزمان، بريطانيا، ويدخل إلى الخرطوم فاتحًا ويؤسس للدولة السودانية المستقلة؟!.

لا أجد إجابة لهذا السؤال سوى أن الضمير الوطني السوداني، بقدر فخره بما تحقق من هزيمة لبريطانيا، العام 1885، واحتفائه بالنصر العسكري، إلا أنه لا يعتد بالدولة السودانية التي تكونت بعد ذلك وعاشت حوالي 14 سنة قبل أن تعاود بريطانيا الانقضاض عليها، وإعادة السودان إلى حظيرة الاستعمار.

انتصر المهدي، في 26 يناير 1885، ورغم شبابه الباكر إلا أنه توفي بعد 6 أشهر فقط، وانتقل الحكم إلى خليفته السيد عبدالله التعايشي، فقاست البلاد في عهده أسوأ صنوف الديكتاتورية الدموية التي وصلت مرحلة سجن وتصفية كبار قادة الثورة المهدية، ثم أغرق البلاد في الحروب العبثية شرقًا مع الجارة إثيوبيا التي كانت تبحث عن تحالف عسكري مع السودان ضد الغزاة، ثم شمالًا مع الجارة مصر التي أرسل إليها الخليفة التعايشي جيشًا ليحتلها فانهار عطشًا وجوعًا قبل أن يخوض معركته الأولى والأخيرة في منطقة ”توشكي“ جنوب مصر.

ولفت نظري تركيز كبار المؤرخين السودانيين، بل حتى ما يدرس من تاريخ السودان للتلاميذ في المدارس السودانية، على الجانب العسكري للدولة السودانية التي نشأت في ذلك الزمان، وتجاهل أو المرور سريعًا على التكوين المدني لها، كأني بها فترة مقتطعة من تاريخ التطور الحضاري في تاريخ السودان بعد العهد التركي الذي بدأ من غزو محمد علي باشا للسودان، في العام 1821م.

وربما لهذا اختار ”المحجوب“ انهيار الدولة المهدية بالسودان، وبداية الاستعمار ليكونا خط الصفر الذي منه يحسب التطور الحضاري للسودان المعاصر.

وهذا السرد قصدت منه إعادة قراءة التاريخ برصد الأحداث التاريخية التي شكلت، اليوم، منهج تفكير الدولة السودانية، وضميرها الوطني.

وبقراءة الـ“تايم لاين“ السوداني، منذ التاريخ الذي كتب فيه ”المحجوب“ مقاله في مجلة ”النهضة“ السودانية، مطلع الثلاثينيات، تبرز أهم الأحداث التالية:

1939-1945 الحرب العالمية الثانية التي شارك فيها السودان بجنوده تحت العلم البريطاني.

1956 استقلال السودان، ونهاية 58 عامًا من الاستعمار.

1964 ثم 1985 ثم 2019، ثلاث ثورات شعبية ضد أنظمة ديكتاتورية تشكلت بعدها حكومات مدنية تعددية (ليس صحيحًا استخدام وصف ديمقراطية هنا).

بالجملة 66 سنة منذ الاستقلال، هي أطول من الفترة التي عاشها السودان تحت الاستعمار (1898-1956)، ولكنها موسومة بالصفة ذاتها التي جعلت ”المحجوب“ يختار بداية الاستعمار كعلامة بداية طريق بدلًا من تكوين الدولة السودانية في عهد الإمام المهدي 1885.

وخلال الـ 66 سنة من عمر السودان بعد الاستقلال، ظلت العلامة الأبرز للأحداث في السودان ذات مدلول ”عسكري“، نصرًا أو هزيمة، انقلابًا أو ثورة شعبية، وخلت من التجسيد الحقيقي لمعنى بناء الدولة المدنية الحضارية.

والدليل على ذلك في أدبيات الفن الغنائي السوداني، بقياس مناسيب الفخر بالثورة مقابل الدولة، فكل الأناشيد الوطنية -تقريبًا- كانت تمجد الفعل الثوري العسكري، وتدعو له، وتتغافل عن الفعل المدني المفضي لترسيخ معاني الدولة، وتقدمها الحضاري.

وبعد انتصار ثورة ديسمبر التي تقود المشهد السوداني الراهن، لم تستطع الحكومة المدنية الخروج من جلباب منهج التفكير الذي يكرس الفخر بالإنجاز الثوري العسكري لا المدني، فتتعسر ولادة الدولة من رحم الثورة بصورة تدعو للقلق على المولود ألا يعيش طويلًا مثلما حدث بعد ثورتي أكتوبر 1964، ثم أبريل 1985.

وكان الأمل إعادة ترسيم ”خط الصفر الوطني“ ليبدأ بثورة ديسمبر تكوين الدولة السودانية الحديثة التي تستثمر موارد السودان المادية والبشرية لبناء حضاري عصري، لكن وبعد مضي أكثر من 3 سنوات لا يزال منهج التفكير، والفعل الثوري، يعلوان على أي صوت يدعو لبناء الدولة الحديثة.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة
إرم نيوز

عثمان ميرغني