مقالات متنوعة

إبراهيم إحمد الحسن يكتب.. حتى لا تلقى الله حية

تزاحم النساء وتدافعهن وصراخهن وعويلهن لرحيل المرأة المسجاة على النعش أثار انتباه وحنق أحمد وهو يحاول أن يزيحهن من التشبث بقوائم (عنقريب) الجنازة السابح فوق أعناق الرجال في طريقه الى المثوى الأخير في المقابر القريبة.. ازداد تزاحم النسوة عند الباب وشق صراخهن عنان السماء.
تزاحم النساء وتدافعهن أعاق تقدم عنقريب الجنازة المحمول على أعناق الرجال حتى أنهم حملوه على أطراف الأصابع فطفا فوق الجموع يسبح في الفضاء، حملوه هكذا قبل أن يستقر ليغادر من كتف الى آخر حال انقشاع حالة التدافع عند الباب. هكذا هو حال كل الجنازات التي تخرج عند كل بيت سوداني فقد عزيز لديه، لا يهم من هو أو هي التي مضت الى رحمة وسعها السموات والأرض، لا يهم نوعه أو عمره، المهم أنه رحل من غير عودة ويبكيه من يفتقده.. تزاحم النساء وصراخهن لرحيل المرأة المسجاة على النعش جعل أحمد يستشيط غضباً، وأخذ الدم يغلي في عروقه وهو يحاول جهد قدرته إزاحتهن عن التشبث بقوائم عنقريب الجنازة السابح فوق أعناق الرجال وشده الى الأسفل، مما جعل موج الرجال الذين يحملونه يترنح يمنة ويسلرة ويتلوى.. حنق أحمد وغضبه المضري سببه كما يرى أن الصراخ علةىي المرأة التسعينية والتي مكثت في الدنيا تسعة عقود لا مبرر له، بل رأى أحمد أن السنوات التي عاشتها الراحلة كافية جداً لتغادر بعدها هذه المرأة الدنيا بسلام لملاقاة ربها راضيةً مرضية ليدخلها جنة عرضها السموات والأرض، رفع أحمد عقيرته بالصياح وهو يطلب من النسوة الابتعاد عن مسار عنقريب الجنازة في (دربه على مشارف الواحد الديان)، صاح أحمد: “يا نسوان ارجعوا الى الوراء.. هل تريدونها أن تلقى الله وهي على قيد الحياة” الذين سمعوا ما قال به أحمد حاولوا إخفاء ملامح الابتسام التي لاحت على محياهم فلم يفلحوا حتى أن البعض حاولوا إخفاء ضحكة مكتومة بانت نواجذها تحت أكمام جلاليبهم حين حاولوا إخفاءها، وإن تحولت هذه الابتسامات الى ضحكات مجلجلة وقهقهات عند الفراغ من دفن الجنازة وقفل الجميع عائدين الى منزل المرحومة حيث شاد الأحياء منهم سرادق كبيراً يتلقون فيه التعازي وانزوى البعض في ركنٍ قصي ينتحب حزناً على الفراق.. في السرادق الذي عادة ما يغلق الشارع من أقصاه الى أقصاه يلتقي المعزون من كل فج عميق ونوع، أقارب وأهل، معارف وجيران، زملاء وأصدقاء و(ناس ما معروفة جات من وين ووصلت كيف). يجلس كل هؤلاء في سرادق العزاء يلتهمون الطعام، يشربون الشاي والقهوة يتناقشون في السياسة والرياضة والاجتماع والثقافة والتربية والفنون والهندسة والطب والكورونا، ومع أن الوتر والكفر كان يتسيد ساحات النقاش إلا أن جمع المشيعين لا يلبث أن يستعيد ما قاله أحمد للنساءِ النائحات: “يا نسوان ارجعوا الى الوراء.. هل تريدونها أن تلقى الله وهي على قيد الحياة”، يضحكون حد القهقهة، حتى أن من جاءوا تواً يقرأون الفاتحة على روح الراحلة عند مدخل (الصيوان) بذلوا علامات الابتسام الخفي وهم يشاركون مُهرجي الضحك عاصفة فعلهم، وقبل أن يمسحوا دموع الضحك يستغفروا، ثم يمضون في شأن نقاشاتهم الأخرى.
يعود استغراب أحمد الى أن المتوفاة مكثت كثيراً و(بما فيه الكفاية) حسب اعتقاده وأن العويل والصراخ بهذه الطريقة لا يعدو أن يكون دراما وتمثيل لا داعي له فهي قد بلغت من العمر عتياً وعاشت في هذه الدنيا الى عمرها الأقصى ولم يعد لديها ما تفقده ويستدعي كل هذا النواح.. وأنها حسب أحمد ومهما تطاول بها العمر فلن يأتي يوم القيامة عليها وهي حية ترزق.
بعيداً عن سخرية أحمد فإن من المهم جداً الإقرار بأن لكل مرحلة عمرية للإنسان دور فعال في الحياة تؤديه، تتطور تلك الأدوار من مهد الطفولة الأولى الى اللحد المستقر الأخير، ويجب أن تلزم كل فئة عمرية الحيز الذي يجعلها تعطي وسع طاقتها حتى يتكامل العطاء ويرسم لوحة العطاء الإنساني بكل بذخه وترفه الجميل ويجب علينا تقدير ذلك حق قدره والاعتراف به ودعمه.

صحيفة اليوم التالي