القائد العام والخيارات المحدودة: السيرُ على خُطى رئيس الوزراء المستقيل!
تمسُّك القائد العام للجيش برئيس الوزراء!
خلال النصف الثاني من عمر الفترة الانتقالية، تصاعدت دعوات بعض القوى السياسية والمجتمعية المُطالبة بإسقاط الحكومة الانتقالية، ولو أنَّ هذه الدعوات متباينة الأهداف النهائية. وبالرغم من أنَّ بعض الأطراف نادت بإبعاد رئيس الوزراء، ظل القائد العام للجيش متمسكاً ببقائه في موقعه، حتى بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021، وفضه للشراكة مع قوى الحرية والتغيير، التي رشحت رئيس الوزراء لذات الموقع. بل، أقنعه القائد العام للجيش بالتوقيع معه على اتفاق سياسي مشترك، في 21 نوفمبر 2021، بهدف التوصل لإعلان سياسي لإدارة الفترة الانتقالية تتوافق عليه القوى السياسية والمجتمعية وقوى المقاومة الشبابية. قُوبلَّ الانقلاب برفضٍ كبير من أطياف واسعة من القوى السياسية والشبابية والاجتماعية، ولقيَّ إستهجان إقليمي ودولي. وبالرغم من صمود رئيس الوزراء أمام ما واجهه من معارضة شرسة واتهامات غليظة رمته بالتآمر مع الانقلابيين، والمطالبات بتنحيه ونفض يده عن السلطة الانقلابية العسكرية، إلا أنَّ الرياح لم تأت بما تشتهي سفن القائد العام للقوات المسلحة. فلم يمرُ شهرٌ واحد، حتى تسرب خبرٌ، في 21 ديسمبر 2021، من طاقم الإعلام بمكتب رئيس الوزراء مفاده أنه قد عزم على تقديم استقالته.
هذه المرة أيضاً، سعى القائد العام للجيش، مباشرة أو عبر قوى سياسية وشخصيات مختلفة، لإثنائه عن هذه الخطوة. وبعد أن أبدى رئيس الوزراء استجابته لدعوات حثه للتراجع عن استقالته، وقرر استمراره في منصبه، وقعت الأحداث الدامية المُدبرة في يوم الخميس 30 دسمبر، والتي نقضت دافعه الرئيس لقبوله التوقيع على الاتفاق السياسي مع القائد العام للجيش: “حقن الدماء”! هكذا، توفقت جماعات الإسلام السياسي وحلفائهم، في داخل الجيش والقوات الأمنية وتحت واجهات سياسية مختلفة، في إبعاد رئيس الوزراء، سادن المشروع الغربي للمجتمع الدولي، والتعامل مع القائد العام للجيش وِفق أهواءهم وخططهم المرسومة، سواء الإبقاء عليه أو الإطاحة به
من الواضح أنَّ الرفض الواسع لانقلاب فض الشراكة مع قوى الحرية والتغيير، زاد من إصرار القائد العام للجيش على الإبقاء على رئيس الوزراء ليكون رمزاً ل”المكون المدني”. وربما ظن القائد العام أنَّ توقيع رئيس الوزراء على الاتفاق، ولو بدون حاضنة سياسية، قد يُضفي قدراً من المصداقية على تأكيد الاتفاق أنَّ الوثيقة الدستورية (المُنقلبِ عليها) تظل هي المرجعية الأساسية القائمة لاستكمال الفترة الانتقالية. ومع ذلك، فمن الواضح أيضاً أنَّ القائد العام قام بانقلابه بدون أن يمتلك رؤية واضحة وخطة عملية قابلة للتطبيق، وكأنما قد تلقى استشارات غير موفقة من بعض القوى السياسية الداعمة لخطوته.
الخيارات المحدودة للقائد العام!
على هذه الخلفية، فإنَّ مغادرة رئيس الوزراء لموقعه لم تترك للقائد العام للقوات المسلحة سوى خيارات محدودة، فهو لا يستطيع أن يذهب بالانقلاب إلى نهايته المنطقية للإمساك بزمام الحكم، ولا يستطيع أن يتراجع عن قرارات 25 أكتوبر والرجوع إلى الوثيقة الدستورية بكاملها (وحتى وإن فعل ذلك فلا أحدٌ ما زال يرغب في ذلك). وفي غياب الرؤية والخطة، لم يعثر القائد العام على خيارٍ يُبقيه على سدة الحكم إلاَّ المضي إلى الأمام على نفس خُطى رئيس الوزراء المستقيل. ذلك، خاصةً إزاء قضيتين متلازمتين هما: تشكيل الحكومة التنفيذية، من جهةٍ، والتوصل لتوافق سياسي وطني بين كافة القوى السياسية والمجتمعية، من جهةٍ أخرى. فإخفاق رئيس الوزراء في خلقِ أكبرِ قدرٍ من التوافق السياسي كان هو العائق الرئيس لتشكيل حكومة الكفاءات المستقلة، مما عرضه إلى التقريع والانتقادات اللاذعة من قِبل القوى السياسية الداعمة للانقلاب.
تشكيل الحكومة
ومع ذلك، أيضاً عجِز القائد العام، الذي يحتكر السلطتين السيادية والتنفيذية، عن تشكيل الحكومة التنفيذية، وهو يقيم ذات حجة رئيس الوزراء المستقيل في صعوبة، إن لم تكُن إستحالة، ذلك إن لم تتوفر البيئة السياسية الملائمة (التوافق السياسي). لذلك، لم يجد القائد العام خياراً آخر غير وضع نفس فكرة رئيس الوزراء، والتي شرع فعلاً في تنفيذها بصدد تكوين الحكومة، في حيزِ التنفيذ. فقد أصدر القائد العام رئيس مجلس السيادة، في 19 يناير 2022، قراراً بتكليف الأمين العام لمجلس الوزراء بمهام وزير شؤون مجلس الوزراء، ووكلاء الوزارات بالقيام ب”أعباء الوزراء”، في إطارِ حكومة تسيير أعمال. إنَّ أغلب من شملهم التكليف هم من اللذين أصلاً كلفهم رئيس الوزراء في 1 ديسمبر 2021، والشاهد أنه أبقى حتى على مدير الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون، والذي لم يكن أميناً عاماً أو وكيلاً لوزارةٍ (ومع نشر هذا المقال، يكون قد استضاف رئيس مجلس السيادة في برنامج الحوار الوطني، في حوار يبثه تلفزيون السودان). وربما الأهم هو أنَّ قرار التكليف هذا كان هو مطلب وكلاء الوزارات في اجتماعهم الأول مع رئيس الوزراء المستقيل، بعد توقيع الاتفاق السياسي، لأغراض تسيير الأعمال حيث هناك صلاحيات للوزراء لا تنتقل إلى الوكلاء. كما أن رئيس الوزراء كان يُدرك ضرورة التكليف نسبة للحوجة إلى انعقاد الهيئة التشريعية المؤقتة (الاجتماع المشترك لمجلسي السيادة والوزراء) لإجازة موازنة الدولة للعام 2022. هكذا، فإنَّ قرار التكليف الذي أصدره رئيس مجلس السيادة قد أتى على إثرِ قرارٍ سابق لرئيس الوزراء المستقيل، في 12 ديسمبر 2021، بتكليف الأمناء العموميين والوكلاء الوزارات ب”تسيير مهام الوزاراء بوزارتهم لحين إشعار آخر، ويستثني من ذلك مهام الوزراء المُعينين تنفيذاً للإلتزامات الناشئة بموجب اتفاق سلام جوبا الموقع بتاريخ 3 أكتوبر 2020″، (قرار رقم 630)، في 12 ديسمبر 2021).
التوافق السياسي الوطني
البحث عن سُبل التوصل إلى التوافق السياسي شكلَّ التحدي الجوهري لرئيس الوزراء، من جهةٍ، والدافع الأساس لتقديم استقالته، من جهةٍ أخرى. ففي ضوء مصارحته حول ما تشهده الساحة السياسية من انقسامات (عسكريين vs مدنيين، مدنيين vs مدنيين، وعسكريين vs عسكريين)، وعدم وجود مركز موحد للقرار وتصور مشترك للانتقال، تقدم رئيس الوزراء بثلاث مبادرات متتالية. أولهما: المبادرة الموسومة (الطريق إلى الأمام) ، في 22 يونيو 2021، وثانيهما: خطة الطريق التي طرحها رئيس الوزراء في خطاب تلفزيوني مباشر، في 15 أكتوبر 2021، وثالثهما: تشكيلة ل”خلية أزمة” من 7 أعضاء، بممثلين لكل طرف من الأطراف الثلاث المشاركة في الحكومة، قبل أسبوع واحد من الانقلاب، في 18 أكتوبر 2021. لم يُكتب النجاح لأيٍ من هذه المبادرات التي هدفت إلى توسيع قاعدة المشاركة وفق ميثاق سياسي لاستكمال عملية الانتقال الديمقراطي.
وحتى بعد انقلاب فض الشراكة الذي اعتقله وعصف بحكومته وأبعده عن حاضنته السياسية، لم يعرف اليأس طريقه إلي رئيس الوزراء عسى ولعل أن تتوصل القوى السياسية إلى التوافق على إدارة ما تبقى من عمر الفترة الانتقالية. ومع ذلك، بعد أن كاد أن يصل إلى طريق مسدود في جمع كل الأطراف على طاولة واحدة، عزم رئيس الوزراء على تقديم استقالته، في 21 ديسمبر 2021، وذاع الخبر وعمَّ القرى والحضر، حتى تم إثنائه عنها وقرر تراجعه عنها، في 28 ديسمبر. وكان رئيس الوزراء في ذلك الحين قد أفصح لرئيس مجلس السيادة، وبِعلمِ رئيس البعثة الأممية، عن إقدامه على الاستعانة بالمجتمع الدولي (الترويكا)، بالتنسيق مع الإيقاد والاتحاد الأفريقي، لتيسير العملية السياسية المطلوبة لاستكمال التحول الديموقراطي.
ففي ظل عجز رئيس الوزراء عن تشكيل حكومة جديدة، واخفاق القائد العام للجيش ورئيس مجلس السيادة في تقديم أي مبادرة سوى اتفاقه مع رئيس الوزراء، وعجز قوى المقاومة الشبابية عن كسبِ السند العسكري الذي ينحاز لهم وتسليم السلطة للمدنيين، فإن فالمخرج الوحيد الذي كان مُتاحاً لرئيس الوزراء كان هو البحث عن “تسهيل” دولي-إقليمي يجمع الفرقاء السياسيين للحوار بينهم على المخرج من الأزمة، وليس “وساطة ثقيلة اليد” (heavy-handed mediation). وبعد استقالة رئيس الوزراء، التقط الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، رئيس البعثة الأممية (يونتامس)، السيد فولكر بيرتس، قفاز المبادرة فأعلن عن دعوته لإطلاق عملية مشاورات مع كافة الأطراف السياسية، في 8 يناير 2022، والتي أكملت الآن مرحلتها الأولى. نقطتان جديرتان بالإشارةِ إليهما هنا لتأكيد هذه الوقائع. من جهةٍ، دعا رئيس الوزراء في خطاب ىاستقالته إلى الحوار على مائدة مستديرة تُمثٌل فيها كل فعاليات المجتمع السوداني والدولة، وما كان ليجوز له أن يخرج عن النص ويُطالب بتسهيل دولي لهذا الحوار. ومن جهةٍ أخرى، عقد مجلس السيادة اجتماعاً، في 10 يناير، رحب فيه رئيس المجلس بمبادرة رئيس البعثة الأممية لتسهيل الحوار بين الشركاء السودانيين.
هكذا، في أعقاب استقالة رئيس الوزراء، ضاقت الخيارات المتوفرة لدى القائد العام للجيش ورئيس مجلس السيادة لمقاربة الأزمة السياسية المُستفحِلة، وفي غياب الرؤية والخطة، وجد نفسه يمشي على ذات خطى رئيس الوزراء المستقيل!
خاتمة
خلق انقلاب فض الشراكة، واستقالة رئيس الوزراء، فراغاً سياسياً عريضا ترَّك السلطة مُطلقة بيد القائد العام للقوات المسلحة. هذا، ما يستدعي عاجلاً من القوى السياسية وحركة المقاومة الشبابية الاستعداد ل”تحمُّل”، وليس الاكتفاء فقط ب”تحمِّيل” المسؤولية للآخرين. فقد وفر انقلاب فض الشراكة، وما تبعه من تداعيات، فرصةً لجميع هذه القوى للتنسيق والوحدة والتماسك لاستكمال مطلوبات الانتقال السلمي والتحول الديمقراطي، وانتشال البلاد من الهاوية التي تقِف على حافتها. ففي ظل هذه الأوضاع، فإنَّ الكرة، هذه المرة، في ملعب كافة هذه القوى، والتي إن لم تتوحد على رؤية واضحة وخارطة طريق قابلة للتنفيذ فإنَّها بذلك تفتح باباً واسعاً، ودرباً مفروشاً بالورود، للقوى السياسية والأمنية المتربصة بالانتقال.
دعونا نُحولُ نِقمة انقلاب فض الشراكة إلى نِعمة، بتضييق شقة التباعد وتقريب المواقف، والبحث عن القواسم المشتركة، للخروج من دائرة اللعبة الصفرية التي تعيشها البلاد. هذا هو البلسم الشافي لمعالجة أي تدخلات خارجية، غير حميدة، قد تضُر بعملية الانتقال السلمي وتعيق التحول الديمقراطي، طالما توحدت، وامتلكت القوى السياسية، وحركة المقاومة الشبابية، الرؤية الواضحة والتصور المُكتمل لكيفية إكمال الفترة الانتقالية. وهذا ما سأستعرضه في مقالٍ قادمٍ.
صحيفة التحرير