مقالات متنوعة

سراج الدين مصطفى يكتب :نقر الأصابع

ثمة تجارب غنائية جادة لا تجد أرضاً خصبة كي تنمو وتثمر، لأن الأجواء مهيأة الآن لأي شكل غنائي يتسم بالهزلية والهزال والفراغ أصبحنا وكأننا لا نطيق من هم أكثر جدية وقدرة على طرق الأشكال الغنائية الجديدة ولكن تاريخنا أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الأشياء التي نرفضها حين ظهورها نتشبث بها لا حقاً ونفرد لها المساحات حينما نفقدها ويصير حالها الى زوال.

أقرب مثال لذلك الرائع مصطفى سيد أحمد الذي وجد من يقف في وجهه وتجربته الوليدة آنذاك ولكن مصطفى وإيمانه بفكرته ومشروعه جعله يتسيّد الساحة ويصبح هو الصوت الأول ولكن بعد فوات الأوان حينما رحل عنا فأصبحنا نتباكى عليه وحتى أجهزتنا الاعلامية التي لم تسع إليه لتوثق تجربته في حياته أصبحت تبحث عن موروثه الغنائي عند أصدقائه.. والتجارب أثبتت أننا شعب لا يستفيد من التاريخ ولكننا نفلح في البكاء حينما نفقد أشياءنا التي لم نعرها أي اهتمام.

الفنان الشاب أبوبكر سيد أحمد هو مثال قائم بيننا، فهو كفنان شاب قد لا يعرفه الكثيرون ولم يجد حظه من الشهرة والأضواء حتى الآن رغم انه فنان صاحب صوت وتجربة جديرة بالتمعن والقراءة والمدارسة والتأمل، لأن تفاصيله الحالية ومخططات مشروعه الغنائي تتكئ على لونية جديدة فيها الكثير من المحاولات على استنطاق أشكال غنائية لم تتطرّق من قبل، أبوبكر سيد أحمد شاب يكرس ويبني لتجربته بالكثير من التأمل في للتجارب الغنائية التي سبقته، وأبو بكر الذي يؤسس الآن لشخصيته الفنية جدير بأن نمنحه بعض الفضاء ليحلق وينطلق بلا قيود ، ومن يتمعّن في أغنيته نقرشة التي صاغها الراحل حميد:

زمني اللي لي

الما علي

وطني البريدك منو لي

وطني البيمرق من حشاي

مع الله لي

وطني البهدهدو فوق يدي

وطني البوسدو من حنان صدري

وبغطي بضي عيني وطني الصبي

وطني الابوي أمي وأخي

يا الما بسويلك بي قفاي

يا المابفوتك بي وشي

دمي البحرسو من الصقور

لحمي البحاحيلو الحدي

هكذا يغني أبوبكر سيد أحمد بحثاً عن شخصية فنية لها تأثيراتها على الواقع الغنائي والموسيقي ، فهو يتباعد عن العادية والكلاسيكية وكل الأنماط التقليدية التي تتحكر الآن على جسد الغناء . وهذا الصوت الشاب الذي يتمز بالمدى الصوتي النادر له مقدرات فائقة في الغناء بلا معاناة أو جهد وحينما تسمعه أو تشاهده تجد طريقته في الغناء فيها الكثير من المعايشة للأغنية ويجسدها أمامك بكل تفاصيلها وهذه القدرة التصويرية في الصوت لا تتوافر الآن وتكاد تنعدم في الوقت الحالي، أبو بكر سيد أحمد جملته الموسيقية تنتمي للحداثة .. ألحانه ذات ثراء نغمي بديع .. أفكاره اللحنية مُتجاوزة لحال السائد من الألحان الدائرية والرتيبة .. يحشد للنص تصاوير جديدة من حيث القدرة على التعبير والتحلل من الأنماط اللحنية العادية .. وهو يحمل ذات الملامح السودانية القديمة من حيث الموهبة العظيمة في مجال الألحان .. فهو يعد من العباقرة في مجاله .. وهو يمكنه أن يسير على ذات الدرب الذي مشى عليه من قبل ملحنون كبار أمثال برعي محمد دفع الله وعبد اللطيف خضر ود الحاوي وعمر الشاعر .. فهو بمثل موهبتهم الفطرية الخلاقة التي قدمت أغنيات جادة وجديدة مازالت حضوراً حتى اللحظة.

أبو بكر سيد أحمد بغير صوته يتكئ على شكل تأليف موسيقي مشبع بالنغم السوداني بكل تلوينات السلم الخماسي الذي يصبح عنده مدرجا موسيقيا يستطيع أن يتحرك من خلاله على كل الأشكال من (الغليظ) الى (الحاد) وهذه هبات ربانية منحها الخالق عز وجل لأبو بكر لذلك أصبح صوته فيه الكثير من البراعة وليس صوتاً محدوداً يتحرك في مساحة ضيقة.

لن أبالغ كثيراً في توصيف تجربة أبو بكر سيد أحمد ولكني على يقين بأن الزمن القادم هو زمانه وسيصبح أكثر حضوراً وسطوة لأن مقدراته تقول ذلك وليس أنا الذي أقول.. ولكن فقط يتبقى أن نفرد له المساحة التي تقدر موهبته العظيمة وتخرجها من هذا النفق والقيود التي تكبله وتمنعه من السير في الاتجاهات التي نريدها له..

أكتب عن أبو بكر سيد أحمد الفنان والملحن.. لأني استشعر موهبته العظيمة .. أكتب عنه لأنني أرى فيه بشارة جديدة ذات طعم مغاير ومختلف .. فهو بالنسبة لي شاب موهوب على قدر عال من البراعة اللحنية والغنائية والأدائية العالية.. ولكنه لم يجد حظه من الانتشار الذي يوازي جمال الألحان التي يقوم بتأليفها.

وكلمة أهمسها لأبو بكر سيد أحمد في أذنه وهي همسة على الملأ .. بأن يترك غناء الآخرين .. فهو يمتلك قائمة وسيمة من الأغنيات الخاصة ذات الجودة العالية ويا عزيزي أبو بكر سيد أحمد أنت فنان جديد وجميل جداً .. ومن الجميل أن تترك ذلك.. لأنك تملك ما هو أجمل.

صحيفة الصيحة