مقالات متنوعة

صديق البادي يكتب: حكومة أكتوبر الأولى وحكومة حمدوك الثانية وسيطرة الأقلية على الأغلبية

الساحة السياسية الآن يدور فيها ما هو أشبه بما دار في عهد حكومة أكتوبر الأولى التي أسقطها الشعب في شهر فبراير عام 1965م. وفي الأيام الأولى لثورة أكتوبر عام 1964م كونت جبهة أطلق عليها إسم جبهة الهيئات وكانت تضم عدداً من قيادات الإتحادات والنقابات والمنظمات وكان يسيطر عليها عدد من الشيوعيين ومن معهم من اليساريين . وفي يوم الخميس الموافق التاسع والعشرين من شهر أكتوبر عقد إجتماع ضم ممثلي جبهة الهيئات وممثلي الأحزاب وإتفقوا على إختيار الأستاذ سر الختم الخليفة عميد المعهد الفني لشغل منصب رئيس وزراء الحكومة الإنتقالية وعمرها المتفق عليه هو سبعة أشهر فقط وقد تم إختياره لأنه مستقل ولا إنتماء حزبي له والأهم من ذلك أنه كان يجد تقدير كافة الجنوبيين الذين أمضى معهم عشرة أعوام كان مسؤولاً فيها عن التعليم في جنوب القطر بمديرياته الثلاث وتم تشكيل وإعلان حكومته التي كان جل وزارئها من جبهة الهيئات وهيمن الشيوعيون واليساريون على الحكومة التي ضمت أقلية وعدداً ضئيلاً من ممثلي الأحزاب الأخرى وهم الأستاذ محمد أحمد محجوب وزير الخارجية ( حزب أمة ) والأستاذ مبارك زروق وزير المالية ( الحزب الوطني الإتحادي ) وبعد وفاته حل محله الأستاذ ابراهيم المفتي والأستاذ محمد صالح عمر وزير الثروة الحيوانية ( جبهة الميثاق الإسلامي ) وأثنين من الوزراء الجنوبيين أحدهما هو السيد كلمنت أمبورو وزير الداخلية وبقية الوزراء الذين يمثلون الشيوعيين واليساريين فقد سيطروا وهيمنوا على السلطة واستغلوا أجهزة الإعلام الرسمية والمنابر العامة وشنوا حملة شعواء ضد ما كانوا يطلقون عليها الأحزاب التقليدية الرجعية وكانت هتافاتهم في الشوارع تعلو ( لا زعامة للقدامى ) وأمضوا في الحكم والسلطة شهر نوفمبر وشهر ديسمبر وشهر يناير وبدايات شهر فبراير أي أنهم أمضوا في الحكم حوالي مائة يوم وأسكرتهم السلطة تماماً وذاقوا لذتها وصعب عليهم مفارقتها وأخذوا تلميحاً وتصريحاً يتحدثون عن ضرورة تمديد فترة الحكم الإنتقالي لأمد مفتوح غير محدود متذرعين بأسباب واهية منها أن أجزاء كبيرة ومناطق عديدة بالجنوب لا تسمح الظروف الأمنية بإجراء الإنتخابات فيها . وفي الأسبوع الثاني من شهر فبراير أذاع السيد خلف الله بابكر وزير الإعلام بياناً عبر الإذاعة وجه فيه هجوماً ضارياً لاذعاً ضد الاحزاب التي وصفها بأنها تقليدية رجعية عاجزة عن تقديم أي شئ للوطن وطالب الجماهير بأن تلتف حول حكومة الثورة وتخرج في مسيرات تؤيد القوى الثورية..ووزير الإعلام المشار إليه كان في أربعينات القرن الماضي يعمل ضابط صحة بمدينة الأبيض عاصمة كردفان التي كان الأستاذ محمد أحمد محجوب يعمل فيها قاضياً في ذلك الوقت وكتب الأستاذ خلف الله بابكر أبياتاً شهيرة من الشعر داعب فيها المحجوب عندما كانا في جولة بكردفان :-

الناس مرقدها النهود وأنت مرقدك الخوي

لو كنت تدري ما النهود لطويت الأرض طي

وأمضى وزير الإعلام في حكومة أكتوبر الأولى ثلاثة أشهر وبضع أيام . وفي أول تشكيلة وزارية في عهد مايو وعين وزيراً للحكومات المحلية وأمضى أيضاً أشهر قليلة في هذا الموقع ومجموع ما قضاه في السلطة في العهدين الأكتوبري والمايوي كان أقل من عام . وفي لقاء جماهيري بثته الإذاعة بعد حل الإدارة الأهلية في بدايات العهد المايوي كان هذا الوزير من بين المتحدثين وألقى كلمة هاجم فيها الإدارة الأهلية هجوماً شرساً ووصف بأنها من أدوات وتوابع الإستعمار وأن القائمين عليها من الجهلة المتسلطين على المواطنين والمعادين للمتعلمين وواصل حملته الضارية القديمة وهاجم ما أسماها الأحزاب التقليدية الرجعية وطالب السلطة الثورية على حد وصفه بالقضاء عليها ودفنها في قبورها… وبعد خطاب وزير الإعلام الذي أشرت إليه آنفاً أصدرت جبهة الهيئات بياناً مماثلاً لبيان الوزير شنت فيه هجوماً شرساً على ما وصفتها بالأحزاب التقليدية الرجعية وأهابت بالجماهير أن تنصرف عنها وتلتف حول الحكومة والقوى الثورية وكانت جبهة الهيئات تسعى لتمديد فترة تلك الحكومة لأجل غير مسمى مطالبين بتأجيل إجراء الإنتخابات لأنها كانت تدرك أن الفشل سيكون حليفها ولن تحصل على شئ يذكر في الإنتخابات وفجرت تلك الاستفزازات الغضب الكامن في نفوس قيادات تلك الأحزاب وقواعدها الشعبية وبدأت تحركاتهم المضادة وفي اليوم التالي خرجت في الصباح الباكر مظاهرة ضمت عدداً كبيراً من طلاب جامعة الخرطوم وطلاب مدرسة الخرطوم الثانوية والتجارة الثانوية وإتجهت المظاهرات نحو مجلس الوزراء وهم يهتفون ( الخرطوم ليست موسكو ) تسقط حكومة الشيوعيين واليساريين وإنضم للمظاهرة عدد كبير من المواطنين وأخذت هتافاتهم تعلو وصعد وزير الإعلام على سطح مبنى وهو فرح وظن أن الجماهيراستجابت لندائه ونداء جبهة الهيئات وعندما رأه المتظاهرون أخذوا يهتفون ( استقيل يا عميل استقيل يا ثقيل ) ونزل بسرعة وإختفى وعندما وصل المتظاهرون مجلس الوزراء علت هتافاتهم الهادرة وكادوا أن يفتكوا بالوزراء الشيوعيين واليساريين الذين دخلوا وخرجوا تحت حماية الشرطة والأجهزة الأمنية وعكفوا في منازلهم في الأيام التالية ولم يحضروا لمكاتبهم خوف الإعتداء عليهم والفتك بهم وحدث تنسيق بين قيادات الحزبين الكبيرين وصمموا وأصروا على اسقاط تلك الحكومة وكان السيد اسماعيل الأزهري رئيس الحزب الوطني الإتحادي على رأس المشرفين والمتابعين لإنجاز هذه المهمة وإمتلات العاصمة بالأنصار الذين حضروا من مناطق دانية أو نائية وكانوا يهللون ويكبرون وهم يحملون أسلحتهم البيضاء ويتحركون بزيهم المميز وإشتدت المظاهرات وعلت الهتافات ( الخرطوم ليست موسكو ) مع المطالبة بحل الحكومة واستجاب الأستاذ سر الختم الخليفة لنداء الجماهير ورغبة الشعب وقدم استقالته من منصبه لمجلس السيادة الذي قبلها وتلقائياً حلت الحكومة بكل وزرائها وكلف مجلس السيادة الأستاذ سر الختم الخليفة بمنصب رئيس الوزراء مرةً أخرى لأنه مستقل وكون حكومة أكتوبر الثانية التي لم يكن للحزب الشيوعي فيها إلا وزيراً واحداً هو السيد أحمد سليمان المحامي وزير الزراعة . وإن الوزراء الذين تمت إقالتهم في حكومة أكتوبر الاولى تمرس بعضهم في العمل النقابي ومنهم العمل في الخدمة المدنية لسنوات طويلة وعندما اسقط الشعب بإرادته القوية الحرة حكومتهم وتمت إقالتهم لم يغضبوا ويثوروا ويلطموا الخدود ويشقوا الجيوب ويقيموا مأتماً وعويلاً ولم يسعوا لإستعمال شتى الأساليب ليعودوا لمناصبهم التي فقدوها وبحكم أعمارهم وتجاربهم وقد تجاوزوا مرحلة الحماس والإندفاع والروح الثأرية الإنتقامية فإنهم أدركوا أن عودتهم لمناصبهم مستحيلة وأن هذا لن يتحقق إلا عن طريق صناديق الإقتراع التي كانوا يدركون نتائجها سلفاً بمعرفتهم لأوزان أحزابهم . وإن عدنا لتلك الفترة الإنتقالية الأكتوبرية بحكومتيها الأولى والثانية فإن الخدمة المدنية كانت قوية راسخة وفي ذلك الوقت كان الوضع الإقتصادي للسودان مستقر والجنيه السوداني يعادل ثلاثة دولارات وثلث والميزان التجاري كان يشهد توازناً ولم يكن فيه خلل بل أن قيمة الصادرات كانت أكثر من قيمة الواردات . وفي ذلك الوقت كان الأمن مستتباً في المدن والقرى وعلاقات السودان الخارجية كانت متوازنة وهيبة الدولة محفوظة وكانت السفارات والدبلوماسون الأجانب يلتزمون بالأعراف الدبلوماسية ولا يتعدون حدودهم ويحترمون أنفسهم والوطن أثناء فترة عملهم فيه وكانت الدولة تهتم بالخدمات في كافة المجالات وعلى سبيل المثال لا الحصر كانت صحة البيئة تجد إهتماماً كبيراً وكانت النظافة هي السائدة وبكل أسف أضحت القذارة الآن هي السائدة . أما الأسواق فقد كانت تشهد متابعة ومراقبة صارمة وكل تاجر كان ملزماً بأن يضع في مكان بارز قائمة بأسعار كل سلعة من السلع التي يبيعها وإذا زاد قرشاً واحداً وفتح ضده بلاغ يحاكم ويعاقب على جناح السرعة وهذه لمحات عابرة عن مجمل الأوضاع في ذلك الزمان أما الآن فقد حدثت متغيرات كثيرة ولا تقع المسؤولية على فترة الحكم الإنتقالي وحدها والخدمة المدنية في غاية الضعف والمؤسف أن من تولوا السلطة في الفترة الإنتقالية إنشغلوا بمسائل إنصرافية وخاضوا في قضايا ليست من إختصاصهم وهي من إختصاص الجمعية التأسيسية أو البرلمان الذي يتم إنتخابه في نهاية الفترة الإنتقالية وكانوا في الإقتصاد والمال يعولون على الدعم الخارجي ومساعدات ومنح وقروض الآخرين الذين خزلوهم ولم يقدموا لهم شيئاً يذكر وأهملت الحكومة القطاعات الإنتاجية وضاع الوقت في التهريج السياسي وحدثت فوضى عارمة في الأسواق والأسعار وإهمال تام لقضايا المواطنين الحيوية المعيشية والخدمية مع تدخل الأجانب والخواجات وتعديهم على السيادة الوطنية ومحاولة فرض وصايتهم وتنفيذ توجيهاتهم وسياساتهم ( ويعني هذا وجود إستعمار مستتر أو معلن ) و كما حدث في حكومة أكتوبر الأولى فقد سعت بعض الأقليات الحزبية أن تسيطر وتهيمن . وحدث الآن إنفلات أمني لم يشهد الوطن له مثيلاً من قبل وكثر عدد اللصوص والحرامية والنشالين والمجرمين مع إستهانتهم بالقانون وإستخفافهم بالدولة وعدم إحساسهم بوجودها . وإنتشر حملة السلاح بطريقة عشوائية بلا رقيب أو حسيب وبعضهم يتبجح ويباهي بحمل رتب عسكرية وهمية وليست رسمية والاسف أن البلاد في ظل الفوضى المائلة حالياً أصبحت كمركب تسير بلا شراع …ومجلس السيادة المترهل عددياً يضم عسكريين ومدنيين وهم جميعاً غير مفوضين تفويضاً مباشراً من الشعب عن طريق صناديق الإقتراع ولكن يمكن التعامل معهم بإعتبارهم يمثلون شرعية الأمر الواقع لفترة إنتقالية تنتهي في شهر يوليو عام 2023م وإذا تعذر قيام الإنتخابات في موعدها المحدد تكون فترة تكليفهم قد إنتهت بعد سبعة عشر شهراً لتبدأ فترة إنتقالية جديدة وفق معطيات الواقع . والمطلوب من مجلس السيادة بلا إبطاء وتأخير أن يعيد تعيين وتشكيل المحكمة الدستورية ليستقيم ميزان العدالة الذي إختل في غيابها ، مع ضرورة الإسراع في تكوين المجلس التشريعي الإنتقالي وإختيار أعضاء لجانه من المختصين والخبراء ويشكلوا في مجملهم المجلس التشريعي الذي يقوم بوضع برنامج ما تبقى من الفترة الإنتقالية ووضع السياسات التفصلية عبر لجان المجلس المتخصصة مع مراقبة المجلس التشريعي لآداء الجهاز التنفيذي مع ضرورة تكوين المفوضيات وعلى رأسها مفوضية الإنتخابات ومفوضية محاربة الفساد ومفوضية أو هيئة الخدمة المدنية التابعة لوزراة العمل والإصلاح الإداري التي عليها إعادة الأمور لنصابها وإزالة التمكين والتمكين المضاد في شغل الوظائف بلا وجه حق في العهد السابق وفي الفترة الماضية من عمر الفترة الإنتقالية مع ضرورة تعيين رئيس وزراء مستقل من ذوي الوزن والثقل والقدرات العالية والخبرات التراكمية وتكوين حكومة من وزارء بنفس المستوى وإنهاء ( حكاية وزراء مكلفين هذه ) وأن يعمل كل جهاز من الأجهزة السيادية والتنفيذية والتشريعية والعدلية في حدود إختصاصاته دون أن يتجاوزها وأن تتفرغ كل الأحزاب والقوى السياسية لتنظيم نفسها وإقامة تحالفاتها استعداداً للإنتخابات القادمة … واواصل .

صحيفة الانتباهة