د. عادل عبد العزيز الفكي يكتب.. أسطورة القمح
القمح أضحى أسطورة وسلعة سياسية في السودان، وكان هذا من صنع الولايات المتحدة الأمريكية التي عمدت، على مدى عقود، على تغيير ذائقة ومزاج المواطن السوداني من تناول الذرة الرفيعة والدخن كغذاء رئيسي، لقمة وعصيدة ومديدة ومريسة، لتناول القمح ورغيفه ومصنوعاته الأخرى من مكرونة وشعيرية وأندومي وبسبوسة وجاتو.
قدمت الولايات المتحدة القمح لنا مجاناً عبر المعونة الأمريكية في ثمانينيات القرن الماضي، عندما ضربت المجاعة بلادنا ضمن بلدان القرن الأفريقي، ثم قدمته مدعوماً ضمن برنامج العون السلعي لبعض البلدان الذي استفاد منه السودان إبان حكم الرئيس نميري، وبعدها باعته لنا بسعره الحقيقي بعد أن زودتنا بالمطاحن الحديثة التي تحيله دقيقاً ناعماً يسر الناظرين والصانعين والخبازين.
منذ ذلك الحين تحكم القمح في اقتصاد السودان وحكوماته، كان أحد أسباب سقوط حكم الإنقاذ عندما انعدم رغيف الخبز وغلا ثمنه في عطبرة وغيرها من المدن. وهو الآن يأخذ بخناق حكومة الفترة الانتقالية في نسختها الثالثة، إن هي حررت التجارة فيه ارتفع سعر الخبز لعنان السماء وثار الشعب، وإن هي تدخلت فدعمته ارتفع التضخم وغضب البنك الدولي والصندوق.
يذكّرنا هذا بسلعة السكر التي كانت تلعب نفس الدور في أوقات سابقة، أذكر أن حكومة المغفور له الصادق المهدي قررت عام 1987 رفع الدعم عن سلعة السكر، وبالتالي ارتفع سعره من 7 قروش للرطل الى 10 قروش، ثارت ثائرة الشعب، وخرج للشوارع، واحتل رئاسة مجلس الوزراء التي كانت بشارع المك نمر شرق مستشفى الخرطوم حينذاك، كلفت وأنا ضابط بجهاز الأمن الداخلي وقتها بتأمين تحرك الأستاذ عبد الله محمد أحمد وزير الثقافة والإعلام في تلك الحكومة من مقر وزارته بالخرطوم إلى الإذاعة بأمدرمان لبث بيان بإلغاء الزيادة، نسبة للتتريس وقفل كبري النيل الأبيض، وهو أحد ثلاثة كباري فقط بالعاصمة حينذاك، اضطررنا لنقل الوزير لرئاسة سلاح الإشارة ببحري عبر كوبري القوات المسلحة، فبث بيانه من هناك فهدأت الأحوال.
فيما بعد خرجت الحكومة من التجارة في السكر، فأضحى سلعة عادية يزيد سعرها وينقص وفقاً للعرض والطلب في السوق، فلا تهتز الحكومة إن زاد سعره، ولا تطرب إن استقر.
مطلوب الآن خروج الحكومة من التجارة في القمح ومنتجاته، أي ألا تتدخل في زراعة القمح وإنتاجه وتسعيره، وألا تتدخل في سعر الخبز والمنتجات الأخرى، وألا تمنع تصدير أو استيراد القمح والدقيق ومنتجاتهما. لكن لا بد أن يكون هذا الخروج آمناً ومرتباً حتى لا يتسبب في اضطرابات سياسية ومجتمعية، لأن الخروج المفاجئ دون ترتيب سوف يترتب عليه إخلال بالأمن الغذائي والمجتمعي، حيث لن يتمكن غالبية الناس من شراء الخبز المرتفع القيمة، ولن يتمكن مربو الماشية والدواجن والأسماك من توفير اللحوم البيضاء والحمراء والبيض بأسعار مناسبة لزيادة سعر الردة الغذاء الرئيسي للحيوانات.
إن أول استراتيجيات الخروج الآمن من مأزق القمح هو تجهيز البديل. وهو ما سوف نتناوله في مقال قادم بإذن الله.
صحيفة اليوم التالي