الموج يا فاكهة مجالسنا .. والموت حق
كنت أشعر بأن صديق الموج يهتم بي بشكل خاص ، ويمنحني مودة خاصة . وكنت سعيدا بذلك . لكني اكتشفت بمرور الأيام أن صديق كان يعامل جميع أصدقائه بمثل ما كان يعاملني به . ولما عرفت هذه الحقيقة ازدادت سعادتي بأن اكون صديقا لصدّيق الموج . ربطتني بصدّيق الموج ساحة الرابطة الرياضية للسودانيين بالخارج ( الصالحية ) . وتوثقت علاقتنا أكثر حين انضم صديق لمنبر سودانيزاولاين ، فأصبح بوردابيا نشطا وفاعلا ، يرسل فكرا ناضجا ، وقفشات لا تنتهي ويخوض المعارك ليقتل غول الظلام .
وبعد لحظة تعرّفك بصدّيق الموج ، تتعرف بلا تلكؤ على أسرته ، وتدخل بيتهم وكأنك داخلٌ إلى بيتك . ثم تصبح إنعام ( أم حيدر ) صديقة لفوزية ( أم طلال ) ، ويتعرف الأولاد بعضهم ببعض ، ثم يشاركون في أنشطة الجالية مع بعضهم ، يرقصون ويمرحون ، ويتعلمون من بعضهم البعض .
يخرج صديق من الصالون ، ويقف في الممر ، وينادي : فوزية ، فوزية .. فترد عليه فوزية وهي داخل مطبخها : آي يا صدّيق . فيحدثها : إنتي ما دام عملتي ده كلو ، وتعبتي التعب ده كلو ، كان لزومو شنو التقصير ؟ وتتساءل فوزية : في شنو ناقص يا صدّيق ؟ فيرد صدّيق: الشعيرية وينا ؟ إنتي ما عارفة ناس شتات ومعتصم ديل أي أكل ما فيهو شعيرية ما بينفع معاهم ، وبيعتبروه ناقص . ديل يا فوزية الورق الأخدر بتاع عباس علي كمير بتاع الشعيرية يوم العيد يتطاقش في شوارع الحلة . عليك الله أعملي ليك ورقة شعيرية بسرعة عشان الناس ديل ما يشيلوا حالك . ويضحك صلاح شتات ومعتصم دفع الله حتى يتمرغوا بالأرض ، والله يجازيك يا صدّيق الموج ، هسة المرة دي تصدّق وتقوم تسوي لينا شعيرية .
كان صدّيق لا يظهر عليه أي غضب وهو يتعامل مع الآخر ، فقط يجرّك إلى الضحكة ، وهو منهمك في شرح فكرته ، وكنت أرى هذا منه وأغير من هذه الميزة التي خصه الله بها ، ولا أعتقد أن لدى صديق خصوم أبدا مهما اختلفت الآراء. وكان يبهرني بنقده اللازع ، وأنا صديقه ، حين أكتب عن أم درمان في سودانيزاولاين . ومرة تحدثت معه عن ضرورة تطوير أم درمان ومعالجة بعض ما أعتبره نشوهات . وتحدثنا طويلا ، فاختصر الموضوع : ياخ أمشي طوّر معتوق بتاعتك دي ، نحن أم درمان دي دايرنها كده . فأعيّره أنه يقف ضد التطور ، فيرد : يا ودقاسم هسة نحن الطورناك وللا إنت الطورتنا ؟
ومرة جاءني أثناء ندوة يقيمها التجمع بالرياض ، وجذبني من الخلف ، فالتفت إليه ، فقال : ياخ بفتّش عليك لي ساعة ، ما لاقيك ، مشيت سألت فوزية ، قالت لي شفت الزول اللابس تي شيرت أبيض داك ، ده ياهو ودقاسم . قلت ليها يافوزية والله إنتي زولة بتاعة محن ، ياخ ودقاسم شنو البيلبس تي شيرت ، هو خلاص صدّق ، قايل روحو من أم درمان . عليك الله يا ودقاسم تاني لما تجي ندوة زي دي بس عرّاقي وسروال وطاقية حمراء .
وصديق مثقف درجة أولى ، يسعى للمعرفة ويبثها بلا تردد ولا بخل، ويسعى لنشر الوعي بروح المرح والضحكة التي تحسها من الأعماق . ومرة احتجته في وقت ضيّق جدا . وكنت أتبنى ندوة في مقر الرابطة الصالحية ، وكانت الندوة حول مدرسة خضر بشير الفنية . وكان صديق الموج موسوعيا وهو يتحدث عن خضر بشير وفنه كأنه كان توأما ملازما له ، وأتانا بالمكاشفي ابن خضر بشير ، وقدما معا عملا كبيرا ، أصبح جزءا عزيزا من ملفات ذاكرة الصالحية .
وما بيني وبين صدّيق الموج لا يمكن حصره في مقال واحد، هي سنوات من الصداقة عشناها ،ونسات ، ومغالطات ، وملاسنات ، وحوارات جادة ، وأعمال مشتركة .
وصديق السياسي ، وصديق الرياضي ، وصديق الفكه الضاحك الراقص الحافظ لكل أغاني الحقيبة وحكاياتها ، وما سواها . صديق صاحب الذاكرة الضخمة التي لا تسقط شيئا صغُر أم كبُر . وصديق الوطني الغيور ، صاحب الكلمة الحق ، وصاحب المواقف الأنسانية التي لا تبدلها الظروف ولا تهزمها المستجدات والنوازل .
صدّيق صديقي وصديق أسرتي ، ورفيق غربة لولاه لكانت خواءً كالحاً.
قد يتلاقى الناس ويتشابهون في كثير من أمورهم الحياتية ،لكن صدّيق الموج كان إضافة لهذه الحياة ، وكان له أثر لا ينمحي بين السودانيين في الرياض.
رحم الله صديق الموج ، وأنزله فسيح جناته ، وأكرم نزله ، وجعله في عليين . اللهم اجعل البركة في ذريته ، ولديه حيدر وأحمد ، وبنتيه إخلاص وفاطمة، وأمنحهم ووالدتهم الصبر على فراق والدهم البشوش .
والعزاء موصول لزوجته ، وأهله وأسرته بالسودان ، ولجميع أصدقائه وزملائه وعارفي فضله .