موبقات المفاوضات مع الانقلابيين (3و4)
ماهر أبوجوخ
سنحاول في هذه الحلقة الثالثة بناء على إستفسارات وملاحظات وردتني إستكمال ما جاء في الحلقتين السابقتين لتحليل مواقف بعض الأطراف التي لم نشر إليها في الحلقات السابقة بجانب التعليق على مستجدات ذات صلة بهذا المقال. من الضروري الإقرار بأنني أكتشفت بعد الفراغ من كتابة الحلقة الثالثة والأخيرة حسب ما هو مقرر بأنها بحاجة لمصلحة مساعدة المتابعين الأطلاع على محتوياتها بتركيز ضرورة إعادة تقسيم الحلقة على حلقتين بحيث تخصص الحلقة الثالثة لإستكمال تحليل الأطراف السياسية على أن تستعرض الحلقة الرابعة والأخيرة لما أطلقت عليه (موبقات) المفاوضات.
دعونا نستهل هذا التحليل الإضافي بالرد على الإستفسار الخاص بموقف (تجمع المهنيين) بشقيه، وصحيح أن (تجمع المهنيين) لم تتم الإشارة لهما ضمن التحليل، ولكنهما مرتبطان بموقف طرفين أساسيين وهما (الحزب الشيوعي) و(قوى الحرية والتغيير)، نظراً لإرتباط الجسمين وتعبيرهما السياسي عن موقف اي من هذين الطرفين رغم الإطار العام لإظهار قدر من الإستقلالية عن الشيوعي أو الحرية والتغيير، ولذلك سيكون موقف اي من الجسمين متماثل أو متطابق مع الطرف السياسي المتقارب معه سواء كان قوي الحرية والتغيير أو الحزب الشيوعي.
بالنسبة للمجموعات السياسية غير الموقعة على إعلان الحرية والتغيير وتلك المشمولة بالمنع من المشاركة جراء مشاركتها مع نظام المؤتمر الوطني فأعتقد أن الواقع السياسي وتطوراته بعد انقلاب 25 أكتوبر سيحدث تغيراً في تعريف القوى المستحقة للعزل، لكن المؤكد في ذات السياق أن المؤتمر الوطني سيكون مشمولاً بالعزل والحل مجدداً فهو بخلاف صلته بالنظام المدحور خلال العقود الثلاثة ومغامراته الإقليمية والدولية وسجله الإرهابي والإجرامي بات يعد فعلياً أبرز الضالعين والمنخرطين والمنفذين لإنقلاب 25 أكتوبر.
بالمقابل نجد قوى أخرى شاركت المؤتمر الوطني الحكم شكلت موقف مناهض للإنقلاب ومعارض له، وهو موقف لدي مقارنته بقوى قاومت وحاربت النظام المباد سنجد أن بعض تلك القوى الثورية بات طرفاً فاعلاً في إنقلاب 25 أكتوبر 20221م … وصحيح أنه لا ينطبق عليها التعريف الأول المرتبط بالمشاركة في النظام المباد لكن سيحتاج لتعريف وتوصيف يتسق مع إرتداده على أعقابه بتدبير وتخطيط بعضها في إنقلاب 25 أكتوبر الذي قوض الإنتقال فأنقلبوا بفضل من الله ونعمة لحلفاء للنظام المباد الذي حاربته بالسلاح فحالفاته عبر الإنقلاب !!
ما ذكرناه سابقاً يقودنا للحديث عن الفصائل الموقعة على إتفاق سلام جوبا والتصور لمستقبلها، وفي هذا السياق يجب الإقرار بأن هذه المجموعة تحمل داخلها تناقضات وخلافات وتباينات تنظهرت في الخلافات داخل الفصيل الواحد وحتى بين الفصائل نفسها، ويمكن الإستدلال هنا بالمواقف المتعارضة من الإنقلاب ما بين رئيس الحركة الشعبية الفريق مالك عقار ونائب رئيس الحركة الشعبية ياسر عرمان فالأول هو عضو بمجلس السيادة أما الثاني فهو من أوائل المعتقلين عقب إنقلاب 25 أكتوبر وأحد أبرز قيادات الحرية والتغيير المجلس المركزي المناهضة للإنقلاب !
يمكن أيضاً الإستدلال بشواهد إضافية كإنقسام الجبهة الثورية قبل التوقيع على إتفاق جوبا لمجموعتين ثم لاحقاً تباينت المواقف السياسية بين أطرافها إذا إختارت أطراف منها التوقيع على إعلان الوحدة ضمن مجموعة الحرية والتغيير المجلس المركزي وحزب الأمة في 8 سبتمبر 2021م في ما إختارت أطراف منها التوقيع على إعلان الميثاق الوطني وإعتصام القصر.
من الضروري الإقرار بأن أطراف سلام جوبا لديها تصورات مختلفة حول الأوضاع الراهنة بعد إنقلاب 25 أكتوبر فيعضها مؤسس للإنقلاب منذ أن كان فكرة، وتوجد أطراف أخرى كانت على الضفة الأخرى ضمن المجموعات الموقعة على ميثاق وحدة الحرية والتغيير في 8 سبتمبر،في ذات السياق نلاحظ في الفترة السابقة مظاهر تصدعت واضحة للعيان وسط مجموعة (الميثاق الوطني) تتمظهر في تراجع أدوار المجموعات غير المسلحة وتحديداً منبري الوسط والشمال عن المشهد السياسي وغيابهم من التمثيل الدستوري.
بالنسبة لمشار الشرق فبخلاف مجموعة الأمين داؤود التي لديها إرتباط وتحالف يجمعها مع حركة مناوي بالجبهة الثورية عند إنقسامها، فإن بقية أطراف مسار الشرق تبدو الأبعد من الإنقلاب في جميع مراحله يضاف لذلك عدم مشاركتهم في المؤسسات الدستورية بسبب قرار تجميد تمثيل المسار، جانب تحفظات أطرافه اعلى إغلاق غريمهم الإقلمي الشرق وميناء بورتسودان.
تلاحظ في الأونة الأخيرة تزايد الشقة وتناميها بين أطراف مسار شرق السودان والعسكريين المسيطرين على مقاليد الأمور بسبب الإنحياز للمجموعة الرافضة لمسار الشرق والمنادية بإلغاءه وأنضم لهذا التوجه حليف الموقعين على مسار الشرق نائب رئيس الإنقلاب محمد حمدان (حميدتي) والذي مثل موقفه السابق المساند لمسار الشرق عامل توازن مهم بين الرافضين للمسار والمجموعة المساندة للمسار.
سيقود هذا التحول مجموعة مسار الشرق ومسانديهم لمناهضة الإنقلاب ومقاومته بشكل علني وواضح خاصة بعد إنحيازه بشكل كلى لخصمهم الإقليمي الذي نصابهم العداء بسبب الإتفاق الذي وقعوا عليه، وحدوث هذا الأمر سيفاقم أوضاع الإنقلابيين وستزاد خطورة وتداعيات تطورات هذا الواقع إذا نجح أنصار مسار الشرق في الحفاظ على جبهة مناصريهم ومسانديهم من النظار والعمد دون تصدع حتى النهاية فحينها سيجد الإنقلاب نفسه فعلياً في وضع غير متزن بشرق السودان جراء تخليه عن موقفه السابق بدعم قطبيه للطرفين نتيجة لإعلانه إنحيازه الكامل لصالح طرف واحد في مواجهة بقية الأطراف.
يتحدث البعض بعد إنقلاب 25 أكتوبر عن إلغاء إتفاق سلام جوبا هكذا بـ(جرة قلم) دون إستصحاب للنتائج والأثار التي يمكن أن تترتب على هذا الإجراء للأطراف الموقعة عليه أو حتى الراغبة في التوقيع على إتفاقيات سلام لاحقة مع السلطة الإنتقالية، ولذلك فالوضعية الأكثر معقولية حسب وجهة نظرى مراجعة الإتفاقية مستثبلاً بتجريدها من الإمتيازات السياسية التي منحت للأطراف على على أساس حزبي -اسوة بالحرية والتغيير- بغرض تجريد مؤسسات المرحلة الإنتقالية قبل الإنتخابات من الولاء الحزبي مع جواز ربط نسبة التعينات في المستوي القومي لمصلحة الإقاليم بحيث يتم التمثيل بأشخاص غير حزبين، أما الأمر الثاني فهو إقتصار تمثيل المجموعات السياسية الموقعة على إتفاقيات السلام في المستويات التشريعية القومية والإقليمية والولائية والمحلية حسب نسب التمثيل المتفق عليها.
ستكون القضية الأكثر إثارة للنقاشات هي المرتبطة بوضعية قادة تلك المجموعات الذين إرتضوا ووافقوا على المشاركة في مؤسسات الإنقلاب ومنحوها الشرعية، قد يقول البعض أن عقوبتهم الإبعاد من العملية السياسية ولكن يطرح سؤال أخر حول الذين دعموا وإنخرطوا في الإنقلاب دون وجود وظيفة دستورية لهم ؟ في ذات الوقت لا يبدو هذا المسلك ونتائجه تسمح بالتعاطي معخ كمجرد (هفوة) يمكن غض الطرف عنها أو تجاوزها خاصة عند النظر لحجم الجرائم والتجاوزات والخسائر المادية والمعنوية للبلاد والعباد جراء ذلك الإنقلاب، ولذلك أعتقد أن الإجراء الذي قد يكون أكثر واقعية هو حرمان (الافراد) الذين شاركوا بالمواقع أو بالتخطيط أو بالتعبير عن إنقلاب 25 أكتوبر لحظة سقوطه وإبعادهم من التمثيل السياسي حتى قيام الإنتخابات العامة.
تطبيق مثل هذا الإجراء بحصر العقاب على الإفراد سيترتب عليه أمرين أولهما حالى وهو العزل الداخلي للتيار الإنقلابي من قادة تلك المجموعات من قواعدهم التي ظل سوادها الأعظم مشاركاً في مقاومة النظام المباد ومساهماً في ثورة ديسمبر وبالتالي فإن تلك القيادات سيكون أمامها خيارين لا ثالث لهما الأول الحفاظ على قواعدها ومغادرة سفينة الانقلاب وهذا عند حدوثه سيكون بداية إنهيار الإنقلاب بشكل نهائي. أما الخيار الثاني فهو التمسك بالسلطة وخسارة قواعدها. بالنسبة للأثر المستقبلي لهذا الإجراء فإنه سيفصل بين (النصوص) و(الشخوص) وحدوث هذا التمايز سيشرع الباب أمام تصحيح الخطأ الهيكيلي الأساسي لإتفاق سلام جوبا الذي إنتهي لـ(مواقع) وفارق ـ(المعاني).
تطبيق الحرمان على مستوى الأفراد -إذا ما تم إقراره وإعتماده- في مواجهة قيادات المجموعات الموقعة على إتفاق سلام جوبا التي شاركت في التخطيط أو التعبير أو شرعنة إنقلاب 25 أكتوبر لحظة سقوطه وهزيمته قد ينسحب على الأحزاب السياسية التي كانت جزء من نظام المؤتمر الوطني عند سقوطه في 11 أبريل 2019م على وجه الخصوص تلك الأحزاب السياسية والمجموعات التي رفضت إنقلاب 25 أكتوبر.
إستفسر البعض عن سبب التعاطي مع رئيس الوزراء المستقبل دكتور عبدالله حمدوك وإفتراض إمكانية عودته للمشهد مجدداً فهذا الإفتراض لديه منطلقات موضوعية وذاتية، فالشق الموضوعي يتصل بعدم وجود شخصية سياسية غير حزبية -وهذه نقطة مهمة للغاية-تحظي بقدر من القبول الشعبي والخارجي أعتقد أن أبرز الشخصيات السياسية بالساحة المصادمة للإنقلاب وعلى رأسهم عضو مجلس السيادة محمد الفكي سليمان أو وزير شؤون مجلس الوزراء خالد عمر أو عضو اللجنة العليا للتفكيك وجدي صالح فإن إنتماءهم الحزبي سيخصم من رصيدهم الكثير، وحتى الشخصيات ذات الإرتباط النقابي كطه عثمان إسحاق نجد أن النقد والغضب الشعبي على تجربة الأحزاب وتحميلها مسؤولية مآلات ونتائج وممارسات الحكم والمحاصصات منذ تكوين الحكومة الإنتقالية وحتى فجر الإنقلاب تضعف من حظوظ تلك الشخصيات رغم إسهامها ومقاومتها للإنقلاب. بخلاف ما ذكر سابقاً فإن الصعوبات التي تعترض التوافق على شخصية أخرى سياسياً وشعبياً قد يكون عامل إضافي لمصلحة حمدوك.
جميع هذه الجوانب قد تسهم في ترجيح كفة لدى رئيس الوزراء المستقيل عند مقارنته بالأخرين، وما يعزز من وضعية حمدوك شعبياً هو غياب أي إنتماء حزبي حالي بالنسبة له، وحتى إتهامه بالإنتماء للحزب الشيوعي فإن المعركة العنيفة التي دارت رحاها بين الرجل والحزب قبل وبعد تطبيق برنامج الإصلاح الإقتصادي كشفت للمتابعين المسافة البعيدة التي باتت تفصل بين الطرفين في الرؤى.
يعتبر البعض أن حمدوك إرتكب عدة أخطاء سياسية وإدارية كان أفدحها توقيعه على إتفاق 21 نوفمبر مع قائد الإنقلاب بإعتبار أن ذلك الإتفاق منح الإنقلابيين مشروعية، ورغم تبريراته ومنطقه برغبته في حقن الدماء وإنقاذ مسيرة الإنتقال وهزيمة الإنقلاب فإن الرجل بات بعد ذلك الإتفاق بين مطرقة الإنقلاب وسندان رفض الشارع وهو ما قاده في خاتمة المطاف لتقديم إستقالته في يناير 2022م.
عقب تلك الإستقالة مضت وتيرة الأحداث صوب سيناريوهات أسوء فعناصر النظام المباد عادت بشكل صارخ وسافر، إستهداف قيادات لجان التفكيك والعاملين فيها وإبطال قراراتها، الإفراط في إستخدام العنف وتزايد الإنتهاكات، الإنهيار الكامل للأوضاع الإقتصادية وإزدياد العزلة الخارجية على البلاد ووصول المشهد لمرحلة إنسداد الرؤى وفقدان أي ضوء أخر النفق. جميع تلك النتائج أسهمت في إعادة رسم صورة حمدوك شعبياً، وبناء على المعطيات الذاتية والموضوعية فإن فرص عودة حمدوك -بغض النظر عن الإطار أو الميقات أو وضعيته المستقبلية- أصبحت ضمن الخيارات المطروحة من قبل أطراف محلية أو خارجية، ومن الضروي أيضاً إستصحاب مساعى أطراف محلية تسعي لعرقلة عودته مجدداً بإعتباره يمثل خطراً متزايداً على تطلعاتها وطموحاتها المستقبلية.
من التحولات الجديرة بالتأمل خلال الأسبوع الماضي هو حديث نائب رئيس الأركان إدارة بالجيش الفريق أول ركن منور عثمان نقد في الندوة التي نظمت بأكاديمية نميري حول تأثير نظام الحكم في السودان على العلاقات العسكرية والمدنية، ويومها أرسل الرجل إشارات مباشرة بعدم إمكانية فرض نظام حكم على الشعب معتبراً أن الخيار الأفضل هو النظام الديمقراطي يكون دور الجيش حماية النظام الديمقراطي والتصدي لأي محاولة إنقلاب، مؤكداً أن الجيش لا يرغب في الحكم خلال المرحلة الإنتقالية وربط الخروج من الأزمة الحالية إما بالتوصل لتوافق سياسي أو تنظيم إنتخابات عامة.
قدم نقد -وهو مدير سابق لأكاديمية نميري التي كانت تعرف بإسم كلية القادة والأركان قبل تغييرها لإسمها الحالي- تصوراً لما يجب أن تكون عليه المرحلة الإنتقالية في حال عدم تنظيم إنتخابات بأن تكون مؤسساتها بعيدة عن التانفس الحزبي وتديرها حكومة تتولي تصريف الأعباء وينتهي دورها بتسليم السلطة للحكومة المنتخبة على أن تقرر المؤسسات التي سيتم إنتخابها الموقف من القضايا الأساسية التي اسماها بـ(الثوابت).
تراجع التفاؤول بتصريحات نقد بإعتباره موقف جديد صادر عن القواات النظامية عقب العنف المفرط تجاه أول مواكب يتم تنظيمها بعد تلك الندوة، وامتد العنف ليشمل مؤسسات رسمية تابعة للدولة بالهجوم على مجمع (إستاك) وتعرض العاملين والعاملات للضرب والنهب بجانب التكسير والتهشيم وتزايد عمليات النهب وهو ما أعطى إنطباع أن جهة ما تعمدت من تلك التجاوزات والقمع والعنف أن تبث رسالة مفادها أن التطورات على الأرض تحكمها الأفعال لا الأقوال.
في تقديري أن الحقيقة التي باتت واضحة للعيان أن مجموعة الإنقلاب بمكوناتها العسمكرية والمدنية باتت متباينة بداية في تقييم المعطيات والموقف وكيفية التعامل مع الواقع وسيناريوهات المستقبل، وللذلك يبرز تيار يقر بوجود أزمة خانقة ستعصف بالأوضاع الراهنة ولذلك فهو يبحث عن مخرج ينهي هذا الوضع المعقد.
بالتوازي مع هذا التيار تبرز بصمات تيار ثان لا يزال يعتقد بأن هناك كوة ضوء في أخر النفق ومخرج يتيح الإستمرار والبقاء للوضع الراهن يحتاج فقط الصمود والمراهنة على الوقت واللجوء لمزيد من القمع وفي اسوء السيناريوهات بالإمكان الجلوس من موضع قوى لفرض شروطه، في ما يوجد تيار ثالث يعيش في عالم مختلف يسارع خطاه لتعزيز مكاسبه على الأرض ويمدد نفوذه وتظهر تحركاته وكأنما لا توجد أزمة أو تداعيات لها أو مؤشرات متنامية بإمكانية إنهيار المعبد على رؤوس الجميع !
ما يجمع بين التيارات الثلاثة هو قناعتها بإمساك الأزمة الإقتصادية بتلابيب نظامهم وضغطه على أعناقهم بشكل عنيف وفشل كل المسكنات الإقتصادية وتحقيقها لنتائج عكسية وتزايد الضغط جراء تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية وقلقهم من إقتراب آوان سداد فواتير موقفهم النشاذ بعد إسدال الستار على تلك الحرب التي جذبت انتباه كل الدنيا دون تمكنهم من فرض الأمر الواقع، وعوضاً عن ذلك تدهورت أوضاعهم وفقداوا السيطرة على زمام الأمور، ووالنتيجة أنه كلما تفاقمت الأزمات وتمددت زادت حدة التصدعات وسط مكونات الإنقلاب ويبدأ كل طرف تحميل مسؤولية الإخفاق للأطراف الأخرى.
من الضروري التذكير بأن تصنيفات تلك المجموعات الثلاثة يتطابق بشكل مماثل مع الوضع السائد إبان الشهور الأخيرة للنظام المباد ويومها كان الرئيس المخلوع ضمن زمرة المجموعة الثالثة يسارع تجهيزاته لخوض إنتخابات أبريل 2020م في ما كان نظامه يتهاوي شعبياً ويتوفي سريرياً بعدما إستحكمت أزمته الإقتصادية فضاقت حتى إستحكمت، ليصل مرحلة الإنهيار الكامل بعدما عجز عن الصمود وبات تكلفة إستمراره باهظة للغاية حتى للذين إختاروا مساندته، وكان خيارهم بكل بساطة أن يمنعوا السفينة من الغرق ولو إقتضي الأمر أن يقذقفوا في البحر بالقبطان وأي من معاونيه إذا ما رفض الإنصياع لتحذيرهم الأخير عوضاً عن مشاهدته وهو يحطم بالسفينة ويغرق كل من فيها … ظلت تلك دووماً سير إنتقال الملك والحكم قد تختلف الأماكن أو التفاصيل أو الأشخاص لكنها ظلت دوماً بذات النهايات تدور في ذلك الأطار منذ قديم الزمان بالأمس واليوم وما سيحدث غداً !!
الاثنين 21 مارس 2022م.
موبقات المفاوضات مع الانقلابيين (4-4): مطالب الإنتصار وهزيمة الإنقلاب
بالنظر للمعطيات والأطراف الداخلية والخارجية ذات الصلة بالمشهد السوداني سنخلص لعدة نتائج مفادها أن إستمرار الوضع الراهن السائد منذ فجر 25 أكتوبر ما عاد بالإمكان، وأن العودة لتركيبة ومعادلة ما قبل إنقلاب 25 أكتوبر ايضاً غير ممكن فلولا الإختلال والإعتلال المصاحب لها لما أنتهت للإنقلاب.
النقطة الثانية أن أطراف مقاومة الإنقلاب قادرة على خوض معركتها رغم الإنهاك والقمع وفي ذات الوقت فإن الإنقلاب قادر على الصمود حتى اللحظة رغم تصدعاته الداخلية والخارجية وتزايد أزماته الإقتصادية والسياسية والأمنية. من الضروري التنبه لإمكانية إنفلات الأوضاع من يده تماماً وإنزلاق البلاد في أتون الفوضي بشكل متعمد أو جراء تراخى القبضة المركزية نتيجة للإنهاك وتعدد الجبهات، أو إنزلاق البلاد في أتون حرب أهلية مسلحة بين بعض أو كل الأطراف بسبب إستمرار الإنسداد أو تجاوز إستخدام العنف طاقة الإستحمال والتوجه للتعامل برد الفعل بعنف مضاد.
ما ذكرناه سابقاً مع إستصحاب التصدعات الواضحة وسط مجموعات الإنقلاب ومخاوف الأطراف الإقليمية والدولية من إقتراب لحظة الإنهيار والإنزلاق في أتون الحرب الأهلية والعنف والعنف المضاد ستعزز من تحرك إيقاع وخطوات التفاوض وطرحه كخيار موجود يهدف في حده الأدني كفرصة أخيرة لإنقاذ البلاد من الإنزلاق في اتون الفوضي وحرب الكل ضد الكل. فالتخوف الأساسي في الوقت الحالى هو الوصول لمرحلة الإنزلاق قبل إتفاق الفرصة الأخيرة.
من الضروري الإشارة لتطور ملازم لسيناريو الإنهيار والإنزلاق في أتون الحرب الأهلية -لا قدر الله- فإن التفاوض سيكون مطروحاً ضمن خيارات الوصول لحل، لكن سيصعب التنبؤ بالأطراف الفاعلة التي ستنتج عن هذا الصراع ومآلات ذلك الصراع والمرارات التي ستنتج عنه وكيفية معالجتها ومقدار الخراب والدمار وما يراد إعماره والوقت اللازم وحجم الأضرار الذي لحق بالمؤسسات والإفراد وغيرها من القضايا التي قد تبدو أنها المطالب الأساسية المراد تحقيقها من اي عملية تفاوض في الوقت الراهن.
جميع هذه المعطيات ستجعل عملية التفاوض تقترب أكثر من اي وقت مضي مع إختلاف تصورات ورغبات كل طرف من الأطراف -فعلى سبيل المثال فإن أطراف إتفاق سلام جوبا يهمهم الحفاظ على مكاسبهم وتمثيلهم السياسي وإستمراره وبعض أطراف المكون العسكري تريد الحفاظ على وضعهم الدستوري – لكن في تقديري فإن جميع تلك المطامح غير ممكنه لعوامل عديدة أبرزها إنقلاب 25 أكتوبر ونتائجه مع وجود توجه إقليمي ودولي يشترط تغيرات في المعادلة السياسية بتكوين مؤسسات حكم مدنية.
ما أشرنا إليه سابقاً يستوجب تحديد القضايا الأساسية والأاهداف المفصلية المراد تحقيقها والواجب إجتنباها التي أسميتها (الموبقات) بغرض ضمان وقبول ودعم الشارع لنتائج تلك المفاوضات بإتساق نتائجها بمطالبه الأساسية ويجب أن تفضي نتائجها لإستعادة ثقة المجتمعين الإقليمي والدولي وتفتح الطريق أمام تعزيز الإنتقال الديمقراطي، وبالتالي فإن تجنب تلك (الموبقات) ستضمن عدم تكرار الإعتراضات التي لازمت تجربتي الوثيقة الدستورية وإتفاق 21 نوفمبر.
أولي الموبقات الواجب تجنبها هي عدم إعادة إنتاج الشراكة مع المكون العسكري، بإلغاء تلك الشراكة بحيث يقتصر دور العسكريين على الدور الوظيفي المحدد لهم وفق القانون وتبعية كل القوات النظامية للحكومة وتحت سلطتها. لا يمكن تحقيق هذا الأمر دون إستصحابه بعلاج كلى وجذري لمسألة الجرائم المرتبطة بفض الإعتصام وما بعد إنقلاب 25 أكتوبر بشكل عام وللعسكريين الساسة الخمسة بما في ذلك معالجتها في إطار العدالة الإنتقالية لمجموعة الخمسة على أن يقترن هذا الإجراء بعدة إشتراطات أبرزها خروجهم من المشهد السياسي كلياً ونهائياً مدى الحياة.
بالنسبة للشق المؤسسي فيجب تأسيس معالجات لقضية تعدد الجيوش وصولاً لتأسيس قوات نظامية مهنية إحترافية ملتزمة بحماية النظام الديمقراطي عن طريق أربعة خطوات أساسية الأولي معالجة ملف العسكريين المفصولين سياسياً من قبل النظام السابق وإرجاع المؤهلين والقادرين للعمل مجدداً والإستفادة من خبرات غير القادرين أو الراغبين للعودة للعمل في وضع خطط التطوير وإعادة التأهيل. وثانيهما إكمال عمليات الدمج للقوات المتعددة والدعم السريع بحيث تفضي لتأسيس جيش سوداني قومي وشرطة قومية مهنية ومؤسسات أمنية قومية ومهنية تؤدي دورها في الأمن الداخلي والخارجي وثالثهما وضع أسس إستعادة قومية القوات النظامية من خلال شروط الإستيعاب وضمان توازن التعدد الإقليمي وفق عقيدة تقوم على حماية الشعب والأرض والنظام الديمقراطي وإحترام القانون وتنفيذه عبر برامج وخطط يصممها العسكريون ويتم تنفيذها بعد إجازتها وموافقة الحكومة عليها تحت إشرافها ورقابة المجلس التشريعي. أما رابعها فهو خروج المؤسسات النظامية من ممارسة الأنشطة التجارية وتمويل كل إحتياجاتها من الخزينة العامة على أن يسمح لها بالعمل في مجال صناعات الدفاعية أو الإنتاج الزراعي والحيواني بجانب الأنشطة التعاونية بغرض توفير السلع والخدمات لمنسوبيها على أن تخضع جميع تلك الأنشطة لإشراف ومراقبة وزارة المالية.
ثاني الموبقات التي يجب تجنبها يتمثل في إلغاء التمثيل السياسي الحزبي في كل من مجلس السيادة ومجلس الوزراء وحكام الإقاليم وولاة الولايات بإعتبار أن التعيين الحزبي غير مرحب به شعبياً، وهو ما يوجب تعيين لتلك المواقع من شخصيات غير الحزبية من الذين لم يشغلوا موقعاً دستورياً خلال فترة حكم النظام المباد أو إنقلاب 25 أكتوبر أو موقعاً حزبياً في حزب المؤتمر الوطني المحلول، مع إلزام كل شاغلي تلك المواقع بعدم خوض أول إنتخابات يتم تنظيمها نهاية الفترة الإنتقالية.
في تقديري أن الشق الخاص بشاغلي الحقائب الوزارية في الحكومات الإقليمية والولائية يمكن التحلى فيه بالمرونة في ما يتصل بالخلفية الحزبية للمرشحين شرطة إجازتهم من قبل المجلس التشريعي للإقليم أو الولاية بموافقة الثلثين وتحديد شروط قبول التمثيل الشخصية الحزبية وإشتراط عدم تجاوز ممثلي الأحزاب نسبة معينة من إجمالي حقائب الحكومة -يمكن أن تكون ثلاثين أو أربعين في المائة- مع إنطباق ذات شروط الحرمان من الترشح في أول إنتخابات في كل المستويات لشاغلى المواقع التنفيذية بالأقاليم والولايات والمحليات. بالنسبة للتمثيبل السياسي الحزبي فسيقتصر على المجالس التشريعية في جميع المستويات ويحق لعضوية المجالس التشريعية المشاركة في الانتخابات.
ثالث الموبقات أن تكون المؤسسات التنفيذية المكلفة بإدارة المرحلة الإنتقالية ملتزمة بتصريف الأعمال من خلال برنامج يحقق السلام وينظم الإنتخابات ويفكك تمكين الثلاثة عقود للحزب الواحد على مؤسسات ومقدرات الدولة والشروع في تنفيذ برامج إعادة هيكلة المؤسسات النظامية وإصلاح الإقتصاد الوطني وإعادته لدائرة الإنتاج مجدداً بالتركيز على القطاعات الحيوية الزراعية والحيوانية ويحقق لها قيمة مضافة ويجعل من الإنتاج المعدني والنفطي عامل مساعد في التوجه التنموي وتقديم الخدمات الأساسية الصحية والتعليمية مجاناً للمواطنين وتعزيز حسن الجوار الإقليمي والدولي والإبتعاد من الحروب والصراعات والإمتناع عن التدخل في شؤون الدول الأخرى وحل اي منازعات بالطرق السلمية والدبلوماسية والإبتعاد عن الحروب إلا في حالة الدفاع عن النفس وصد العدوان.
رابع الموبقات هو عدم تكرار خطأ الوثيقة الدستورية بتشكيلها للمؤسسات الأعلى ممثلين في مجلس السيادة ومجلس الوزراء وتعطيل تكوين المجلس التشريعي الإنتقالي، لذلك ييجب أن تتأسس العملية الدستورية الإنتقالية هذه المرة من المجلس التشريعي الإنتقالي ويجب التوصل لنسب تكوينه بحيث يضمن تمثيل الشابات والشباب الفاعلين بلجان المقاومة، الأحزاب السياسية وأطراف السلام والمجموعات الأهلية والدينية والإجتماعية المختلفة.
يجب أن تقودنا عملية النسبة والتنسب لضمان عدم تمتع طرف واحد أو طرفين بالأغلبية التي تمكن من الإنفراد بالقرار بإعتبار أن ذلك سيضعف الدور الرقابي للمجالس التشريعية وسيجعل القرارات المفصلية محسومة عند طرفين فقط خاصة أن هناك تجارب ممثلة كانت نتائجها سيئة في المراحل الإنتقالية بسبب وجود طرفين لديهما الأغلبية -نموذجاً برلمان 2005م الذي تشكل بعد إتفاق السلام الشامل- أما التجارب التي إنفرد فيها طرف واحد بالأغلبية فقد أنتجت أنظمة شمولية قادت المشهد السياسي للإنسداد.
سيختص المجلس التشريعي بجانب دوره الرقابي والتشريعي في إعداد وإجازة القوانين بإختيار وإعفاء رئيس وأعضاء مجلس السيادة، رئيس الوزراء ووزراء الحكومة، إختيار حكام الأقاليم وولاة الولايات قبل تكوين المجالس التشريعية الإقليمية والولائية، إختيار رئيس القضاء والنائب العام وأعضاء مجلسي القضاء والنيابة العامة، إختيار رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية الإنتقالية وإختيار رؤساء المفوضيات وأعضاءها على أن تجاز جميع تلك التعينات بموافقة ثلثي أعضاء المجلس التشريعي الإنتقالي.
أما الخامسة فهي الأستفادة من الخطأ السابق بوضع تصور كامل لكيفية تشكيل مؤسسات الحكم وصلاحياتها في جميع المستويات (القومي، الإقليمي، الولائي والمحلي) تنفيذياً وتشريعياً وشروط تكوينها ونسبها والإلزام بتمثيل النساء بما لا يقل عن خمسة وعشرين في المائة والشباب ما دون الأربعين عاماً بنسبة تتراوح ما بين الخمسة والعشرة في المائة وتحديد جدول زمني لتشكيل تلك المؤسسات ووضع بدائل لتشكيل تلك المؤسسات في حال إنقضاء الأجل المحدد دون تكوينها، يمكن إرجاع الأمر للمجلس التشريعي الإنتقالي بإعتباره السلطة التشريعية العليا بالبلاد لتكوين تلك المؤسسات بموافقة ثلاث أرباع أعضاءه بإعتباره إجراء إستثنائي يحتاج لأغلبية إضافية.
سادس الموبقات اللازم تجنبها هو عدم تكرار خطأ الوثيقة الدستورية في ما يتصل بتشكيل مؤسسات العدالة والإستفادة من تجربة التنازع ما بين إستقلالية القضاء والنيابة العامة وتفكيك التمكين الموجودة فيها الذي أعاق إستكمال مؤسساتها وعطل تفكيك التمكين فيها من خلال تشكيل مؤسسات عدلية وقانونية إنتقالية أسوة بالمؤسسات الدستورية ينتهي أجلها بإستكمالها للتفكيك في تلك المؤسسات وضمان تحقيقها للمهنية وصولاً لتكوينها لمؤسساتها ممثلة في مجلس القضاء العالي ومجلس النيابة العامة وإختيارهما لرئيس القضاء والنائب العام على التوالي.
في ذات الوقت يقترح ان يتم تكوين محكمة دستورية إنتقالية بجانب مجلسي قضاء ونيابة عامة إنتقاليين -فإذا كنا سنصيغ دستور جديد ونشكل مؤسسات دستورية إنتقالية فلا ضير من تشكيل مؤسسات عدالة إنتقالية أخرى- من شخصيات قانونية وقضاة مشهود لهم بالمهنية ينتهي تكليفهم بإنتهاء المرحلة الإنتقالية على أن يتم إختيارهم خلفهم من قبل مجلسي القضاء والنيابة العامة وفق لما ينص عليه القانون.يشترط على شاغلى الأجهزة العدلية الإنتقالية عدم شغل منصبهم مجدداً بعد إنتهاء المرحلة الإنتقالية عند إنتخاب وإختيار المؤسسات اللاحقة.
سابع الموبقات هي تجنب التضارب في الصلاحيات والإختصاصات بين المؤسسات ومستويات الحكم من خلال إعداد نصوص دستورية تحدد سلطات وإختصاصات أي مؤسسة من المؤسسات وعلاقاتها بالمؤسسات الأخرى وذات الأمر ينطبق على مستويات الحكم المختلفة مع إمكانية الإستفادة من التجارب والنصوص الدستورية السابقة ووجود المحكمة الدستورية الإنتقالية لحسم أي خلافات ونزاعات ذات طابع دستوري بين اي مستوي من المستويات.
ثامن الموبقات تستوجب الإعتراف بحقائق متصلة بالخدمة المدنية وسبل علاج أزماتها التي سيظل تفكيك التمكين المنتهج حل جزئي لأزمتها التي باتت تحتاج علاج جذري بإعادة تشكيلها لجعلها قومية تعبر عن كل الأقاليم وقادرة على إستيعاب الشباب والشابات بشكل أكبر ومتوائمة مع متطلبات العصر في السرعة وإحتياجات زيادة الإنتاج وهذا لا يتطلب (إصلاح) وإنما (إعادة هيكلة)، ويمكن تحقيق هذه النتائج بشكل يضمن إستمرار الدولة في واجبها ومسؤوليتها تجاه مواطنيها في توفير سبل العيش لملاين العاملين شاغلى الوظائف بالإستهداء والإستفادة من نماذج وتجارب بعض الدول التي قررت إعادة هيكلة خدمتها المدنية دون إستخدام لأساليب الفصل أو الصالح العام.
تاسع الموبقات التي يجب إجتنابها هي إعتبار تفكيك التمكين وإسترداد الأموال المنهوبة عملية معزولة عن الإنتقال، فتفيكك التمكين هو أحد الأعمدة الأساسية وهدف من اهداف المرحلة الإنتقالية وهو ليس فرض كفاية يناط بمؤسسة واحدة تنفيذه وإنما هو واجب على كل مؤسسات الإنتقال وبدون تحقيقه فإن الإنتقال الديمقراطي سيكون في مهاب الريح وسيتم تقويضه وهذا ما حدث قبل وبعد إنقلاب 25 أكتوبر ولذلك يجبب تعزيز عملية التفكيك بحيث يصبح إجراء يتبع للمجلس التشريعي للمستوي المعني ويكون لقرارات لجان التفكيك النفاذ التنفيذي ويجوز مراجعتها وإستئنافها للجهات القانونية والعدلية حسب ما ينص القانون.
من المهم بحث الجوانب المرتبطة بالأموال المنهوبة الموجودة بالخارج والإستفادة من تجارب الدول الأخرى والإستعانة بالخبارات الخارجية بغرض معالجة هذا الملف مع إمكانية تعزيز الإجراءات المرتبطة بهذا الملف من خلال إصدار التشريعات التي تساعد على إستعادة تلك الأموال بما في ذلك إبطال أو نقض إجراءات بيع الممتلكات العامة داخل البلاد وخارجها خلال عهد النظام المباد أو بعد إنقلاب 25 أكتوبر.
يجب عدم إغفال التطورات المرتبطة بإجراءات وقرارات المحاكم بإلغاء قرارات لجنة التفكيك قبل أو بعد إنقلاب 25 أكتوبر ونظراً للمأزق القانوني حول هذه الإجراءات فيجب عدم الإقرار بها أو تحصينها بمنع الجهات التنفيذية أو التشريعية من إعادة النظر حولها، وما ينطبق عليها يشمل كذلك كل التشريبعات والإجراءات والقرارات والتعينات التي تمت خلال الفترة التي أعقبت إنقلاب 25 أكتوبر. قد يكون الخيار الأقرب لضمان عدم حدوث تضارب وتنازع ما بين الأجهزة التنفيذية والتشريعية مع الجهات القضائية هو تجميد القرارات الإلغاء الصادرة عن المحكمة العليا لحين الفصل في النزاع حول دستوريتها وقانونيتها من قبل المحكمة الدستورية الإنتقالية.
عاشر الموبقات الواجب تجنبها هي المرتبطة بالسلام فالإقدام على إلغاء إتفاق سلام جوبا سيكون أمراً مثيراً للقلق والخوف للمجموعات الراغبة في التوقيع على إتفاقيات سلام، لذلك الأصوب أن تراجع تلك إتفاقية جوبا وأن ينص على تطابق محتوياتها مع الإطار الدستوري الجديد القائم على نتائج المفاوضات بتشكيل مؤسسات الحكم التنفيذية قومياً وإقليمياً وولائياً من أشخاص غير منتمين حزبياً أو حركياً لاي من الأحزاب أو الحركات المسلحة، ويكون الإطار الدستوري هو التشريع ألأعلى في البلاد ولا يعلو عليه اي نص قانون أخر أو إتفاق سياسي ويزال أي تعارض بما يؤدي لتحقيق هذا العلو للإطار الدستوري.
يجب تحديد الالية التي سيتم بموجبها مراجعة إتفاقية سلام جوبا وكيفية تحويلها لتصبح إتفاق سلام شامل قادر على معالجة أسباب الحروب في كل أنحاء البلاد، وتفضي نتائجها لتحقيق أهدافها في إستدامة السلام ومعالجة مسببات وأثار الحروب وتحقيق القومية لمؤسسات الدولة العامة العسكرية والمدنية وتعزيز الإنتقال الديمقراطي وتنظيم إنتخابات حرة تعددية ديمقراطية وصياغة دستور قومي يحقق الوحدة الطوعية ويعكس التعدد والتنوع الثقافي والديني والإثني ويضمن قسمة عادلة للسلطة والثرورة بين كل أقاليم البلاد.
بجانب ما ذكر سابقاً فيجب الإقرار والإعتراف بوجودنا في محيط جيوسياسي يؤثر ويتأثر بالسودان إيجاباً وسلباً، من المهم التعامل مع الأطراف الإقليمية والدولية على أساس مبدأ التعاون والتكامل وإعلاء المصالح وتجنب الإضرار وتوظيف مقومات السودان الجغرافية والسياسية لصالح تعزيز التعاون الإقليمي والتكامل بما يخدم مصالح كل شعوب المنطقة ويضمن إستدامة السلام والإستقرار ويمنع أندلاع الحروب والصراعات في هذا المحيط داخل الدول أو في ما بينها.
من المهم تعريف مشروع الإنتقال بأنه يحقق مصالح السودانيين ولا يقصد الإضرار بأي أطراف إقليمية أخرى أو تهديدها بتصديره وأن نجاح السودانيين في إستكمال الإنتقال وبلوغه غايته يعني تجنيب المنطقة تداعيات إنهيار دولة محورية أو فشلها وعدم إستقرارها بإعتباره معطى يمتد أثره على كل الإقليم.
النقطة الإضافية التي يجب استصحابها بخلاف ما ذكرناه سابقاً ذات الصلة بالإطار الدستوري والقضايا الأساسية الواجب تضمينها ضمن نتائج أي مفاوضات بغرض فتح الطريق أمام إسستعادة الإنتقال الديمقراطي وتأسيس مؤسسات حكم مدني، فيجب عدم تكرار أحد الأخطاء الأساسية خلال العامين السابقين للحكم الإنتقالي والمتمثل في فقدان وغياب دور مراكز الدراسات المناط بها التفكير والتحليل لمختلف القضايا الإستراتيجية للدولة الأمر الذي أدي لغياب تلك الرؤى وعدم وضوحها وتضارب التوجهات وإندلاع الإتهامات بإختطاف القرار بين المؤسسات أو المجموعات السياسية أو من قبل أفراد وأفضت جميع تلك المعطيات لنشوب صراعات وحدوث تخبط في إتخاذ القرارات والتنافس غير الحميد المضر بالبلاد في العلاقات الخارجية.
من الضروري أن يكون للمؤسسات الدستورية مؤسسة بحثية كمركز للدراسات والبحوث الإستراتيجية يتولى دراسة وتحليل القضايا الراهنة أو المتوقعة لدوائر صنع القرار وإعداد التوصيات اللازمة لها في ما يتصل بالقضايا المختلفة والخيارات والسيناريوهات والتطورات المتوقعة ومن ثم يترك لتلك المؤسسات حرية إتخاذ الموقف المناسب وفقاً لتقديراتها، في ذات السياق فإن هذا أو تلك المراكز بإمكانها أن تصبح جرس إنذار مبكر للأزمات المستقبلية المتوقعة وإقتراح سبل تجنبها أو الخروج منها في حال وقوعها وحدوثها.
إن تضمين القضايا التي أشرنا إليها سابقاً في أي إتفاق أو مفاوضات بغض النظر عن الأطراف وإطار ونوع الوساطة سواء كانت محلية أو إقليمية أو دولية ستجعل نتائج تلك المفاوضات والمباحثات تحظي بالقبول والرضا الشعبي بإعتبارها تحقق وتستجيب لمطالب الشارع بدحر وهزيمة الإنقلاب وإستعادة الإنتقال ووضع لبنات المؤسسات المدنية والعسكرية والعدلية في المجتمع الديمقراطي وإنهاء الحرب وإستدامة السلام وتفكيك التمكين الحزبي الممتد لثلاث عقود وإسترجاع الأموال المنهوبة والمسروقة.
إن سودان المستقبل بهذه المواصفات والإمكانيات وتلك التركيبة الداخلية المستقرة هو خير معين لجيرانه ومحيطة الإقليمي وللمجتمع الدولي في الإسهام الفاعل الإيجابي في كل المجالات التي تصب لمصلحة الشعوب وإعلاء المصالح وتكامل الإمكانيات بما يحقق الرفاه والإستقرار والتطور للشعوب والدول وسائر المنطقة ويجنبها اي صراعات أو أزمات.
الأمل موجود والتغيير قادم والشعب منصور وثورته ستبلغ منتهاها وتهزم أعداءها في خاتمة المطاف.
(إنتهي)
صحيفة التحرير