العلاقات الدولية ومنظومة الأقطاب
د. محمد عبد الله تيراب
متخصص في العلاقات الدولية
السياسات العامة، وإدارة النزاعات
ميريلاند – الولايات المتحدة الأمريكية
يمثّل مفهوم النظام الدولي International system”وليس International order” يمثّل أحد أهم العناصر المحددة لشكل العلاقات القائمة على مسرح العلاقات الدولية، الذي يسود فيه ديناميكية عنصر القوة المحددة لكيفية وشكل العلاقات فيما بين أعضاء المنظومة-system – القائمة، حيث إن شكل النظام يلعب دوراً حاسماً في تحديد حرية الدول الصغرى وحركتها وعلاقاتها الدولية. يعتبر شأن توزيع القوة داخل النظام الدولي من أهم العوامل المحددة لمسار العلاقات الدولية بين الفاعلين على مسرح العلاقات الدولية.
بنيوية هياكل النظام الدولي :
عرفت أدبيات العلاقات الدولية ومناهج العلوم السياسية، ثلاثة قوالب أو أشكالٍ للقوة كهياكل للنظام الدولي. يتجسد ذلك في ما عُرف بالأقطاب، تتمايز تبايناً من التعددية القطبية، الى الثنائية القطبية والأحادية القطبية.
تعرف ملامح التعددية بوجود عدد من الدول – بعضها كبرى بالضرورة – أو أقطاب، تكون لديها القدرات المتماثلة او المتعادلة نسبياً لجعل قوتها وقدرتها على بسط النفوذ على مسرح العلاقات الدولية والتأثير في مجالاتها القوة المختلفة، الاقتصادية، السياسية او التكنلوجية العلمية، جميع هذه العناصر، أو بعضها. لا توجد أيدولوجيات جامدة ولا قوالب فكرية محددة؛ بل مرونة متناهية ومجال يسع الانتماءات الفكرية المتنوعة، هذه المرونة هي ما تجعل بعض المحللين بوصف هذه الهيكلية بالضعف والهشاشة ، لكن في الاعتقاد أن هذه المرونة هي الباعث والمحرك للتنمية المتوازنة والرابحة للأطراف win win وكذلك قدرة المنظومة في ترسيخ الأمن الجماعي عبر التوازن . تعمل آلية هذه الهيكلية على استقطاب دول أقل قوة لتكبر كرة الثلج متدحرجة نحو الكبر والتجبر، في مراحل لاحقة من عمر المنظومة ” التعددية” تهيئة لحتمية التحور الى هيكلية أخرى، في غالب ذلك الثنائية.
ثم نجد هيكلية الثنائية القطبية وهي – بشكل دقيق وصارم – حتمية وجود قوتين نافذتين عملاقتين تشكلان قطبين متنافرين بدرجة عالية من التنافس والصراع على النفوذ والقوة. يحتم هذا الصراع الكتوم حيناً والبيّن أحياناً لضرب المنافس لإضعافه، والتنافس الدائم المحموم في نيل المصالح او النيْل من الآخر المنافس. لكن على الدوام يقف الندان على مسافات بعيدة عن بعضهما البعض، وكذلك الدول المتحاورة في فلك القطب المعين. لا ينحصر مجال هذا الصراع في أقاليم القطبين وجغرافيتهما فحسب، بل يمتد الى مساحات دول التحالف أو الضعيفة خارج التحالف، والتي تغازل هذا أو ذاك القطب من أجل بعض المدد أو السند في اقتصادها، جيشها أو السياسة. في غالب الأمر يكسي كل قطب هيكله بدثار آيدلوجي، ويعمل كلٌ على شاكلته لتوظيف فكره لدعم قوامه وقوامته، وكذا تحالفه الاقتصادي والعسكري. خير أنموذج لذاك النظام – ثنائي الأقطاب هو ما كان عليه حال العلاقات الدولية إبان حقبة الحرب الباردة الأولى.
رغم أن قادة طرفي الثنائية القطبية – في منتصف القرن العشرين- قد روّجا مفهوم التعايش السلمي، وقد صدر في هذا الخصوص عن الزعيم السوڤيتي نيكيتا خروشوف الكتاب الشهير” За прочный мир и мирное сосуществование ” من أجل السلام الدائم والتعايش السلمي، بعد أن صدر كمقال في دورية ال Foreign Policy وفي المقابل أصدر هنري كيسنجر “البحث عن الاستقرار” في الدورية الأمريكية نفسها في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين، رغم ذلك فقد كان الصراع على المصالح ومساحات التمدد الجيوسياسي على الأقاليم المختلفة – شرقاً وغرباً – لم يتوقف إلى حين انهيار منظومة الثنائية القطبية.
الشكل الثالث لمستوى التقاطب هو الفردية أو الأحادية القطبية – كما الذي نعيش اليوم بعض ملامح هونه وترنحه – فيتميز بوجود تمركز وتركز السلطة في قوة متفردة واحدة. تكون هذه القوة هي مركز ومدار حركة ومسارات العلاقات الدولية، وتكون الهيمنة الكاملة في مصدر قراراتها ويدور في فلك هذا القطب مجموعة من الأقوياء ذوي النفوذ والمصالح المشتركة في تحالف معضد للقطب الواحد الجبار. يكون هذا القطب الواحد ذو بسطة في القوة العسكرية والاقتصادية والتقدم التكنلوجي والعلمي، كذلك وفرة في الموارد الطبيعية والبشرية الداعمة لقيام قوام قوامة هذا القطب الجبار المؤهلة لفرض النفوذ في القرار الدولي والإقليمي، أو حتى في بعض الشؤون الوطنية الخاصة ببعض الدول الضعيفة ونظمها.
يتميز كل نظام دولي بهيكلية structure يمكن توصيفها من سماتها الأساسية؛ باعتبار أن ملامح النفوذ والقوة، وكذلك العلاقات القائمة وديناميكيتها يمكن تميزها دون غيرها من أية منظومة دولية سابقة او لاحقة، يكون التمايز بتفاوت قدرات وسلوك وحدات النظام بعينه. يحدد بعض المختصين في مجال العلاقات الدولية ثلاثة مستويات ضمن هيكلية كل نظام دولي يقوم : المستوى الأعلى في الهيكلية يضم الدول القائدة the leaders وهي الدول العظمى، ثم يأتي المستوى الثاني وهي الدول ذات الوزن الثقيل؛ لكنها لم تتصدر مواقع القيادة، ثم يأتي المستوى الثالث والذي يظل فيه البقية المتبقية الغالبة العددية، والمغلوبة على أمرها.
ليست الأطراف الفاعلة وحدها، أو القدرات الوطنية لكل منها، أو كمّها ما يحدد هيكلية النظام الدولي، إنما ديناميكية ونمط التحالفات القائمة فيما بين الدول القائدة أو الكبرى، وكذا ماهية المؤسسات والمنظومات الحافظة لتوازن القوى داخل كل منظومة على حدة.
إن شكل التوازنات التي تحكم مسار وديناميكية العلاقات الدولية؛ تؤثر بشكل مباشر على هيكلية النظام الدولي، وعلى ذلك وجهات التحالفات الموجِّهة لمسارات كل مجموعة أو كتلة، والتي قد تؤدي الى الحتمية البنيوية في النظام الدولي ونشوء الأقطاب. قدرة النظام” القطب في قمة تبلوره وتطوره” على الصمود والبقاء على مسرح العلاقات الدولية بالقوة ذاتها، مرهونة بقدرته على الأداء الوظيفي له والفاعلية الناجحة في تحديد المصالح وتجسيدها reflecting the interests فقدرته – كما الأمن. قوة التحالف التكامل والتكيّف – هو شرط بقائه الرئيس، ضعفه هو بطبيعة الحال مؤشر احتمالية الانهيار، والوهن الشديد هو حتمية الانهيار وفتح الباب للمنظومة المتوالية للدخول إلى مسرح العلاقات الدولية، وهكذا تتوالى الدورة تعددية ثنائية أحادية، ليس ترتيباً بالضرورة.
صحيفة اليوم التالي