عادل الباز

أيـَام كارلوسُ في الخُرْطُوم (حِكَايَة لَمْ تُروَ)


مشهد (17)

كان نظام الإنقاذ في ذلك الوقت منشغلاً بتثبيت نفسه في الحُكم عبر ما عُرف بفقه ”التمكين“. نجح الانقلابيون لحدٍّ كبير في القضاء على أي حركة معارضة مدنيه فلم يتعرَّض النظام لمقاومة شعبية كانت متوقعة، وها هو النظام يدخل عامه الرابع بلا مخاطر داخلية تتهدَّده. بدا واضحاً أن النظام أصبح أكثر ثباتاً في الحُكم، الشيء الوحيد الذي يشكِّل له تحدياً خطراً هو علاقته بالخارج، خاصة في ظلِّ عدم وجود آليات للاختراق، وعدم خبرة كافية ومعرفة لقادته بفن التعامُل مع الخارج.

كان طلب فرنسا لقاء مسئولين من الأمن السوداني بارقة أمل لفك حالة الحصار المضروبة على النظام. قرَّرت الحكومة على أعلى مستوياتها إرسال الوفد الأمني على وجه السرعة لباريس، وهي السرعة التي أدهشت الفرنسيين أنفسهم، إذ توقعوا تلكؤ الحكومة السودانية في قبول الدعوة الغامضة التي اتضح فيما ما بعد أن لها هدفاً وحيداً… وحُدِّدت الزيارة بنهاية سبتمبر العام 1993م.

مشهد (18)

كان نادي الخرطوم العريق ممتلئاً وصاخباً في تلك الليلة. بدأ الغناء والرقص يملآن المكان تماماً، ولم يبق أحد جالساً على كرسيه. كانت الكاميرات تنقل الحفل لجميع الحاضرين بأرجاء النادي الفسيح. كان رجُلُ المُخابرات المصري ”هانئ سعيد“ يجلس في ركن قصي يتابع المشهد عبر الكاميرات وهو مستمتعٌ بالأجواء التي طالما افتقدها في هذه العاصمة الجافة. لقد كانت أيام باريس هي أحلى أيامه التي عرف فيها أيام صباه الزاهرة، وكلما تذكر تفاصيلها ندم وضحك. ولكن صورةً أطلت على إحدى شاشات العرض جعلته يقف مضطرباً ومندهشاً، لا يصدِّق أنه يرى ما رأى أمامه… كان كارلوس في تلك اللحظة ثملاً يُمسكُ بيدي ليلى ويقهقه في وسط ذاك الصخب… تركزت الكاميرا للحظات على ذلك الأجنبي وتلك المرأة السودانية الجميلة… تركزت عينا رجُل المُخابرات المصري على تلك المفاجأة الصاعقة التي لم يكن يتوقعها. كارلوس بالخرطوم؟!

مشهد (19)

وجد ”هانئ“ نفسه منذ ذلك اليوم وحتى انتهاء مدته بالخرطوم منشغلاً بقضية وحيدة، هي: كارلوس بالخرطوم. بدأ هانئ سعيد عمله الدبلوماسي بفرنسا التي مثلت أوَّل محطة خارجية في حياته. كان ذلك في العام 1973م. يذكر هانئ كيف كان كارلوس يسبِّب هلعاً لدى المواطنين الفرنسيين في سبعينيات القرن الماضي، كما سبَّب بن لادن هلعاً للأمريكان مع بداية الألفية الثالثة، ولمدة عشر سنوات، لم يرتاحوا حتى دفنوه في قاع البحر… كان كارلوس قد أطلق سلسلة من العمليات الإرهابية هزَّت المجتمع الفرنسي. في 15 سبتمبر 1974م حين قاد عملية أدَّت لانفجار أحد المحلات التجارية وسط باريس وأسفرت عن قتيلين وحوالي ثلاثين جريحاً، يومها أعلنت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مسؤوليتها عن هذه العملية. وفي 13 ديسمبر 1979م اعترف كارلوس أنه ألقى قنبلتين على المحل التجاري لإنجاح عملية تبادُل المحتجزين في سفارة فرنسا في لاهاي. وفي 3 أغسطس 1974م قاد كارلوس عملية ضد مراكز ثلاث صحف باريسية، وأيضاً قام بعمليتين في مطار أورلي في يناير 1975م. على أن أخطر عملياته التي كان هانئ سعيد شاهداً عليها بباريس هي عمليته الجريئة في يونيو 1975م والتي أدَّت لمقتل عنصرين من عناصر قسم مكافحة التجسُّس الفرنسي خلال اقتحامهما منزلاً بباريس. قام كارلوس بإطلاق النار عليهما واستطاع الهرب بطريقة محيِّرة على الرغم من أن منزله كان تحت حصار مُحكم، محاطاً بالمئات من رجال الشرطة الفرنسيين. يذكر هانئ كيف عصفت تلك العملية برؤوس كثيرة في المخابرات الفرنسية وجهاز الشرطة (D.S.T)… منذ ذلك الزمان الذي يبعُد عن ليلة النادي الخرطومي العريق بأكثر من خمسة وعشرين عاماً، ظلت صورة كارلوس مطبوعة في مخيلة هانئ سعيد.

صور كارلوس ولمدى سنوات معروضة في الإعلام الفرنسي كمطلوب أول للعدالة الفرنسية. رغم السنوات ورغم التغيير الكبير الذي حدث في شكل كارلوس، إلا أن صورته التي انطبعت في ذهن رجل مخابرات ذكي ولمَّاح كهانئ سعيد يستحيل أن يغيِّر تفاصيلها الزمن أو تغيُّرات مكياجية أو جراحية يجريها كارلوس بين الحين والآخر، لتسهِّل تخفيه المستمر. أخذ هاني علماً بالخبر وبدأ رحلة السباق مع أجهزة مخابرات كثيرة تلهث وراء اصطياده.

مشهد (20)

بدأت ليلى في تلك الحفلة في كامل أناقتها بشكل لفت كل الأنظار. كان جسدها الفارع الممتلئ شيئاً ما دون ترهُّل، وشعرها المنساب على ظهرها بحرية كاملة يجذبان الأعيُن. إلا أن أكثر ما جذب إليها الحضور وجعل كاميرات التصوير كلها تتركز عليها هي بهاء ضحكاتها التي توزعها وسط دائرة من المعجبين أحاطت بها. كانت ليلى ترقص بمرحٍ وإتقان كأنها بنت العشرين… تجيد الرقص على الإيقاعات كلها، لم تلك لحظات تمر حتى هب كارلوس من مقعده الى داخل حلقة الرقص بعد ان اعجب ودهش لطرائق رقص ليلى فاخذ بيدها كارلوس وهي تضحك من إيقاعه الفارق دائماً، إذ لا يستطيع كارلوس الرقص على إيقاعات الدليب ولا التُمْتُمْ ولا الجراري، وهو أبعد من يعرض على إيقاع الدلوكة. كان كارلوس سعيداً رغم السخرية والضحكات التي تعالت في المكان منذ ولوجه دائرة الرقص.ارخت تلك الليلة لعلاقة عميقة بين كارلوس وليلى ستوثر فيما بعد على اهم واخطر مراحل حكاية كارلوس بالخرطوم.

لاحظ هاني سعيد تحرُّكات تلك المرأة وبدا مندهشاً لعلاقتها الحميمة مع كارلوس، لكنه – كما عبَّر لاحقاً – أُعجب بحيويتها التي أنعشت المكان كله. بدأ هاني يركز نظره ويتابع ثمة صيد شهي لرجل المخابرات وصل إلى شباكه دون أن يسعى إليه.

مشهد (21)

غادر كارلوس الحفل في تلك الليلة ثملاً… قادته ليلى بصعوبة إلى باب باب العربة بعد ان طلب منها رجل اعمال صديق لكارلوس العناية به،بدا كارلوس يحدث ليلى عن نفسه بمايشبه الهذيان ولكنه لم يكن غائبا عن وعيه تماما.تقريبا سرد كارلوس كل شئ عن سيرتة وطلب اليها ان تقف الى جانبة وانه منذ ان راها وثق بها واخطرها الا احد يعلم سره بالخرطوم.دهشت ليلى لسرعة ثقته بها وهو من يفترض ان يكون حذرا لقد زاد اعجابها به واكدت له ان مسمعتة سيظل سرا. اتقربت العربة من المنزل ولاحظت حركة عربات غير مألوفة في مثل تلك الأوقات بهذه المنطقة التي تعرفها جيداً. كانت دائرة الحركة تبدأ من محيط السفارة الفرنسية الذي لا يبتعد عن المنزل سوى 90 متراً حتى إلى ما قبل شارع إفريقيا بقليل. بدا لها أن المنزل مراقباً، وأن تحرُّكاتها هي نفسها مراقبة. انتهت مهمتها عند الباب بعد أن سلمته لمرافقيه بالمنزل، واتجهت بسيارتها باتجاه شارع إفريقيا الذي بدا لها أكثر أماناً من الشوارع الجانبية في العمارات. لم تمضِ أكثر من دقيقتين حتى لاحظت عربةً خلف عربتها مباشرة، وأدركت أن هواجسها لم تكن وهماً. ولم يكن أمامها إلا التحرُّك بسرعة على ذات الشارع ومراقبة العربة التي خلفها. كانت الساعة تشير إلى ما بعد منتصف الليل بخمس دقائق حين بدأت وقائع تلك المطاردة.

مشهد (22)

بَدَتْ شوارع الخرطوم في تلك الساعات الأولى من الصباح شبه خالية ممَّا مكَّن ليلى من متابعة خط سيرها بالسرعة اللازمة. لم تفكر إطلاقاً في إنهاء مهمة مطارديها بالتوقف عند أول قسم شرطة، وكان متاحاً مثلاً الوصول إلى قسم شرطة العمارات، ولكنها كانت تدرك أن ذلك من شأنه تعقيد الأوضاع أكثر ممَّا هي معقدة. اختارت أن تتصرَّف بحكمة، فعند منتصف شارع الجمهورية لاحظت أن عربة أخرى قد دخلت على خط المطاردة وهذا ما أثار اندهاشها. لأوَّل وهلة ظنت أنهم رجالات الأمن السوداني لا بد أنهم لاحظوا تحرُّكاتها ويحاولون معرفة المزيد من المعلومات عنها. هذا لا يقلقها فهي تعرف جيداً طبيعة عمل المخابرات. مَن هي تلك الجهة الأخرى التي يمكن أن تطاردها في مثل هذه الأوقات؟!.استبعدت أن تكون العربتان تتبعان لجهة واحدة. فأوَّل درس تلقته أن استخدام القوة الزائدة يضر بأي مهمة تتعلق بجمع معلومات. فجأة بدلاً عن مواصلة السير مباشرة إلى منزلها في المقرن قرَّرت الانعطاف يميناً إلى شارع النيل لتربك خطط المطاردين. بمجرَّد انعطافتها، وتحديداً عند دوار الحركة بوسط الخرطوم، لاحظت مواصلة العربة الأولى سيرها في شارع الجامعة متجهة لمنطقة المُقرن، بينما اختفت الأخرى تماماً. لم تجد تفسيراً لما جرى، إنما تنفست الصعداء. انتهت المطاردة بسلام.ولكنها ادركت ان بديع كارلوس الان شخصية مهمة بل وخطيرة.

مشهد (23)

غادر بديع المنزل مبكراً رغم الإرهاق الذي أصابه جرَّاء ليلة الأمس. كان عليه حضور اجتماع مع تجَّار محاصيل سودانيين بالعمارة الكويتية بشارع النيل وسط الخرطوم. في ذلك الوقت بدأ بديع فعلاً يفكر بالقيام بعمل ما، ليس لتغطية وجوده فحسب، ولكن لتسهِّل حركته الداخلية والخارجية تحت غطاء مريح. تجارة المحاصيل تتيح له التحرُّك في فضاء العالم بحريَّة… هذا ما فكر به جدياً وبدأ يعمل في اتجاهه. قبل أن تتحرَّك عربته الكريسيدا من أمام المنزل، أطلت عربة ليلى من شارع إفريقيا، فاندهش لمجيئها في مثل هذا الوقت. بسرعة أخطرته أنها لا بد أن تلتقي به اليوم لأمر مهم وعاجل. استغرق اللقاء أقل من دقيقة غادرت بعدها المكان.

يتبع

صحيفة اليوم التالي


‫5 تعليقات

  1. خلاص الهدف اتحقق يا عادل الباز !؟
    البرهان عمل الانقلاب وزج بأعضاء لجنة ازالة التمكين -أعداءك الألداء- في السجن .. وبعدها ما عاد في شي في الأوضاع السياسية الراهنة في البلد يستحق الاهتمام والكتابه !؟
    وعشان كدا بقيت تكتب عن أحداث الماضي؟
    أظن أن المرحلة الخطيرة التي يمر بها السودان الآن تشغل الصحفي عن أي أمر آخر .
    وبالطبع أعني الصحفي الحقيقي وليس أصحاب الأقلام المأجورة .

  2. خليهو يا الفاروق !! ديل أصلا ابطال الاتصرافيه !! الراجل ركب مكنة ولا ( ادجار الآن بو )

  3. والله زكرني بأدهم صبري ورجل المستحيل.. ده فيلم هندي عديل.. بس النصيحة السرد مشوق بل متعة عديل

  4. هههها
    دبيب في خشمو جراده ولا بعضي….
    دا الحاصل هنا يا شباب