عثمان ميرغني

عثمان ميرغني يكتب.. هل هو “تدخل” أجنبي أم “تداخل”؟


قبل نحو أسبوع، بالتحديد، في يوم الخميس 28 أبريل 2022 الماضي، التقى ”مبعوثون دوليون“ يمثلون: الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، والنرويج، والاتحاد الأوروبي، بحضور سفراء دولهم في الخرطوم برئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان ثم نائبه الفريق أول محمد حمدان دقلو، وفي ختام زيارتهم أصدروا بيانًا وصفه البعض بأنه تدخل سافر في الشأن الداخلي السوداني.

في لغة البيان وردت عبارات أثارت ردود فعل على مستوى الرأي العام السوداني، بما اعتبرها بعض النخب ”تدخلًا“ يمس السيادة الوطنية، إذ أشار بيان المبعوثين الدوليين إلى المطالبة بضرورة تنصيب حكومة مدنية مع ”التحذير من أي اتفاق أو حكومة ناتجة عن إجراءات غير شاملة تفتقر إلى المصداقية لدى الجمهور السوداني والمجتمع الدولي“.

وأشاروا إلى ”مخاطر أي مزيد من التأخير“ في إعلان تشكيل الحكومة، (كما أعربوا عن قلقهم البالغ ازاء تنصيب أعضاء النظام السابق مرة أخرى.. فهل فعلًا – كما عده البعض- يعد هذا البيان والزيارة ”تدخلًا سافرًا في الشأن الداخلي السوداني وانتهاكًا صارخًا لسيادته؟

”الكتالوج“ السياسي السوداني فيه كثير من المصطلحات التي ترتفع لمقام المُسَلّمات، من بينها كلمة ”عميل“ لتوصيف أي اتصال خارجي، أو ”المساس بالسيادة الوطنية“ لوسم العلاقة مع الخارج..

ومن هذا الباب تضرر كثير من مصالح السودان القومية تحت رهق المراهقة السياسية التي لا تُحدّق في المعني الفني الدقيق لمثل هذه المصطلحات ذائعة الانتشار بين النخب السودانية.

وبدلًا عن النظر للمصالح الوطنية بمنتهى الذكاء، تُستخدم العلاقات الخارجية في المعارك السياسية الداخلية تحت طائلة ”العمالة“ أو التفريط في السيادة الوطنية.

تَخلط النُخب السياسة السودانية بين مفهومين متقاربين في الشكل الظاهري وبعيدين في الجوهر، هما: ”التدخل“ في مقابل ”التداخل“، Interference Vs. Engagement.

”التدخل“ غير مرغوب فيه، لأنه يمنح الإحساس بفرض إرادة خارجية على الدولة، أما ”التداخل“ فهو الاشتراك في بناء العلاقات التي تفرضها مصلحة الأطراف.

في السياق السياسي، يرتبط بعض الدول بمصالح تتطلب درجة كبيرة من ”التداخل“ بينهما في حدود مرنة متفاهم عليها لتحفظ مصلحة مشتركة، وفي سياق الأمن القومي قد تزداد الحاجة لمزيد من ”التداخل“، فينعكس ذلك كله على المسار الاقتصادي الرابط بين الدول.

لكن مفهوم ”التداخل“ هنا ليس ثابتًا بالقدر والمعيار ذاته في العلاقات الثنائية بين كل الدول، فما يمكن أن يُوصف ”تدخلًا“ عند دولة ربما يقع في حيز ”التداخل“ لدى دولة أخرى، وهنا بالتحديد المحك في قياس ”حصافة“ أو ”حماقة“ السياسة الخارجية لكل دولة.

ومع التطور الهائل في العلاقات الدولية، أضحت المصالح الوطنية لأية دولة هي هِبَة “ التداخل“ المثمر الذي تحققه المصالح المشتركة.
إذا أخذنا مثالًا لذلك العلاقات الثنائية بين السودان والولايات المتحدة الأمريكية – وهي دولة لها تأثير كبير على الأوضاع الداخلية بالسودان – فكثير من نشاط البعثة الدبلوماسية الأمريكية بالخرطوم قد يبدو تحت طائلة ”التدخل“ لمن ينظر إليها بمعايير دول أخرى، لكنها في الواقع السوداني غير ذلك تمامًا، والدليل على ذلك أن المواجهة السياسية بين أمريكا والسودان التي أدت إلى المقاطعة الاقتصادية الأمريكية ضد السودان، في العام 1997، أضعفت الاقتصاد السوداني إلى درجة كبيرة أوصلته لمرحلة الإطاحة بالنظام السياسي السابق.

وبعد تدشين حكومة الثورة بذلت الولايات المتحدة الأمريكية – نفسها التي كانت مبادرة بالمقاطعة الاقتصادية- جهدًا كبيرًا لتطبيع علاقات السودان مع الدول والمؤسسات الاقتصادية، وساهمت بدفع هذا التطبيع برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ثم إزالة الديون التي تسببت بقطع التواصل بين السودان ودول ومؤسسات مالية عالمية.

لم تكن الحكومة الأمريكية تنظر للأمر في حدوده الدبلوماسية الضيقة المتعلقة بالعلاقات الثنائية بل بالمنظور الأشمل الذي يستعيد مساحات ”التداخل“ في المصالح المشتركة بمسارتها كافة، السياسي والاقتصادي، وقبلهما الأمني.

الولايات المتحدة الأمريكية في ظل الترسيم الجديد للمحاور والمصالح، تدرك أن للسودان دورًا جيوبوليتيكيًا مهمًا، لكونه الرابط الوسط جغرافيًا بين أركان القارة الأفريقية الأربعة، وبين الإقليمين العربي والأفريقي، إضافة لدوره في أمن البحر الأحمر والقرن الأفريقي بالتحديد.

وبهذا المفهوم؛ فإن معيار ”التداخل“ الأمريكي السوداني – وليس التدخل الأمريكي في السودان، بحسب ما تتوهمه النخب – يأخذ في الاعتبار علاقات السودان مع جيرانه: مصر، وإثيوبيا، وجنوب السودان، وإريتريا، وليبيا، وتشاد، وأفريقيا الوسطى.

بل وتمتد إلى خارج الإقليم، فيصبح طلب روسيا للسودان بناء قاعدة عسكرية بحرية على ساحل البحر الأحمر شأنًا يتجاوز ”السيادة الوطنية“ ومن صميم ”التداخل“ في العلاقة مع أمريكا، كما ظهر جليًا في زيارة نائب قائد قوات ”الأفريكوم“ الأمريكية للسودان، في فبراير 2021.

ترقية إستراتيجيات السياسة الخارجية السودانية ترتبط بتطوير ”التداخل“ Engagement مع الدول الأخرى إلى شراكات مصالحية رفيعة في المسارات كافة، ويبدأ ذلك أولًا بإبعاد العلاقات الدولية من مضمار التنافس السياسي في لعبة كسب النقاط الجماهيرية التي تدمنها النخب السودانية مستخدمة التخوين الوطني ”العمالة“ واتهامات ”المساس بالسيادة الوطنية“ في التراشق السياسي، ثم ثانيًا بناء إستراتيجية السياسة الخارجية على فهم رفيع يستوعب مطلوبات ”التداخل“ المثمر في العلاقات الخارجية.

الأمثلة كثيرة لا تحصى لفرص ضاعت على السودان نتيجة تقاصر التمييز بين ”التدخل“ و“التداخل“ في العلاقات الخارجية، واستخدامها في المعارك السياسية الداخلية الضيقة.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز