عثمان ميرغني

عثمان ميرغني يكتب.. السودان.. عملية “دس المحافير”

قال السفير علي الصادق وزير الخارجية السوداني – المكلف- في تصريحات صحفية، الخميس الماضي 19 مايو 2022، إن بعثة الأمم المتحدة السياسية في السودان ”يونتامس“ فشلت في مهامها، فقد كان مرجوًا منها أن توفر المال لترتيبات الانتخابات مثل الإحصاء السكاني، وتحديد الدوائر الانتخابية لكنها لم تنجح بتوفير دولار واحد.

مرافعة وزير الخارجية السوداني المطولة تبدو كأنما هي حُكم بإنهاء عمل البعثة أو محاولة للضغط لتعديل مهامها، والأخير هو الأقرب للتوقعات، فبعثة ”يونتامس“ ينتهي أجلها بإكمال عامها الثاني في الثالث من شهر يونيو 2022 المقبل، أي بعد أيام قلائل، وما لم يجدد مجلس الأمن تفويضها فستغلق أبوابها وترحل دون أن تحقق حتى مجرد اسمها المختصر في ”يونتامس“ والذي يعني (بعثة الأمم المتحدة المتكاملة للمساعدة في الانتقال بالسودان).

البعثة الأممية لم تُفرَض بقرار من مجلس الأمن على السودان، بل كانت استجابة لطلب رسمي تقدم به الدكتور عبد الله حمدوك رئيس وزراء السودان الانتقالي، في يناير 2020، وعززه بموافقة الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة، فصدر قرار مجلس الأمن رقم 2524 في 3 يونيو 2020 بتفويضها.

في حضرة القمح
وكانت هناك مخاوف أن تتضمن البعثة وجودًا عسكريًا أمميًا، بما يعزز دعاوى من يتهمونها بالانتقاص من سيادة السودان والتدخل في شؤونه الخاصة، لكن البعثة انحصرت في فريق عمل مدني محدود بمقرها بالخرطوم برئاسة البروفسير الألماني فولكر بيرتس.

وخلال عام كامل من وجودها لم تكن جاذبة للتقارير الإخبارية لأن جُل عملها كان خلف الكواليس، ولكن بعد 25 أكتوبر 2021، والإطاحة بالوثيقة الدستورية، ووضع الدكتور حمدوك رئيس الوزراء رهن الإقامة الجبرية مع اعتقال قيادة سيادية ووزارية وسياسية رفيعة، بدا نشاط رئيس البعثة يظهر في الوسائط الإخبارية، ثم تحول إلى محور استقطاب سياسي بين من يعتبرون تحركاته المكوكية بين قيادة الجيش ومنزل رئيس الوزراء المحتجز ضربًا من التدخل السافر في الشأن الداخلي السوداني، ومن يرونه طبيعيًا في سياق تفويض البعثة الأممية لإنجاح الانتقال إلى نظام ديمقراطي مُنتخب.

وتحولت الساحات والشوارع المجاورة لمكتب البعثة الأممية بالخرطوم إلى مسرح تظاهرات كان بعضها يرفع صورة فولكر رئيس البعثة عليها شعارات تطالب بطرده، ووصفها فولكر بأنها من صنع وتدبير النظام البائد.

لكن القشة التي قصمت ظهر البعير كانت ليلة تقديم فولكر رئيس البعثة الإحاطة الدورية أمام مجلس الأمن، في شهر مارس 2022 الماضي، استشاطت السلطات في السودان غضبًا، وقال البرهان في تصريحات علنية إن البعثة قد تطرد رغم أن تصريحات البرهان لم تتحول إلى قرار حتى الآن، لكنها دخلت حيز الواقع مباشرة بعد بثها في الأثير الإعلامي.

وتوقفت المرحلة الثانية من العملية السياسية التي كانت البعثة الأممية تديرها بمنتهى النشاط والحماس والتقت خلالها في اجتماعات تشاورية مع أكثر من 800 شخصية سودانية يمثلون الأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني، والطرق الصوفية، والنازحين في معسكرات دارفور، وأصحاب المبادرات من مختلف القطاعات، وانتهت المرحلة التشاورية بتقرير أعده مكتب بعثة الأمم المتحدة بالخرطوم حوى خلاصات الجلسات التشاورية تمهيدًا للانتقال إلى المرحلة التالية وهي مفاوضات المائدة المستديرة بين الأطراف السودانية تيسرها المتحدة الأمم دون التدخل في أجندة المباحثات السودانية- سودانية.

وفجأة، ودون مقدمات أطل في الخرطوم ممثل الاتحاد الأفريقي الموريتاني البروفسير محمد حسن ولد لبات (سبق له قيادة وساطة الاتحاد الأفريقي بالسودان في 2019 وانتهت بتوقيع الوثيقة الدستورية وإشهار الشراكة بين الحرية والتغيير والمجلس العسكري).

ورغم أن مهمة ولد لبات ظهرت وكأنها دعم للعملية السياسية التي ابتدرها وقادتها بعثة الأمم المتحدة ”يونتامس“ بالسودان إلا أن كواليس المشهد كانت مختلفة تمامًا.

”ولد لبات“ التقط الإشارة بكل وضوح من السلطات السودانية أنه ليس مطلوبًا منه مجرد الانخراط في العملية السياسية بل إلغاء دور البعثة الأممية، وتحويل فولكر إلى مجرد ”دوبلير“ مثلما يجري في صناعة الأفلام السينمائية.
وفي أول مؤتمر صحفي عقده رئيس البعثة الأممية فولكر وموفد الاتحاد الأفريقي ولد لبات، تولى الأخير إدارة المؤتمر بل والإجابة عن معظم الأسئلة بينما كان فولكر ينتظر وينظر بجانبه إلى الفرص القليلة التي يأذن له فيها بالرد على الأسئلة.

لكن يبدو أن السلطة السودانية كانت تأمل بمزيد من ”تذويب“ بعثة الأمم المتحدة في عملية متعددة الرؤوس تفرغ دور ”يونتامس“ تمامًا.

وبالسيناريو ذاته الذي أتى بوسيط الاتحاد الأفريقي هبط بالخرطوم بغتة ممثل منظمة ”الإيقاد“ وهي اختصار لـ (الهيئة الحكومية للتنمية) مكونة من 8 دول تمثل القرن الأفريقي، وحوض النيل، والبحيرات العظمى.

وبدلًا من العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة تغير الاسم إلى ”الآلية الثلاثية“، بل و للإمعان في تخفيف وزن البعثة الأممية، استحدثت الآلية الثلاثية ترتيبًا بروتوكوليًا يبدأ بالاتحاد الأفريقي ثم الإيقاد، ثم الأمم المتحدة.
وبقدر ما كان فولكر يحاول التحرك بقوة أكبر لدفع الأطراف السودانية إلى طاولة مفاوضات مباشرة، إلا أن الشريكين الآخرين في ”الآلية الثلاثية“ كانا يجيدان لعب الدور المطلوب منهما وهو إفراغ المهمة من ”الجدية“.

وبصعوبة نطق البروفسير ولد لبات في مؤتمر صحفي، رمضان الماضي، بمواعيد محددة لبدء المباحثات بين الأطراف السودانية، تحت عنوان ”المفاوضات التحضيرية“، بما يعني عمليًا استحداث مرحلة جديدة قبل الدخول إلى مرحلة المائدة المستديرة بين الأطراف السودانية.

ولكن حتى هذه ”المرحلة التحضيرية“ وجدت ما يكفي من بيانات الرفض من الأطراف السودانية التي بدأت تستشعر ثقل الأصابع التي تدير من وراء حجاب عمل الآلية الثلاثية.

وللمرة الثالثة تنشأ عملية ”انسحاب تكتيكي“، فبدلًا من ”العملية التحضيرية“ اُختِلِقَت عملية جديدة أطلق عليها ”مباحثات غير مباشرة“ بدأت من المربع الأول الذي دشنته العملية السياسية للأمم المتحدة قبل 5 أشهر، في وقت تعاني فيه البلاد انهيارًا اقتصاديًا مريعًا، وتوترات أمنية في بعض الأطراف، وحالة انحسار خطيرة لسلطة الدولة المركزية حتى في بعض المواقع داخل الخرطوم.

اعتذار للبحر
للسودانيين مثل شعبي يقول -بتصرف طفيف- (جاءوا لمساعدته في زرعه، دَسّ المحافير) ويقصد به من يضع العراقيل أمام من يساعده، وهو يصور الوضع الراهن في السودان، ففي حين أن بعثة الأمم المتحدة حاولت إحداث اختراق سريع للأزمة السياسية لتجنب مزيد من العقوبات الأممية ضد السودان، وإكمال عملية الانتقال التي تنهي مرحلة الثورة لتبدأ مرحلة بناء الدولة، إلا أن اللاعبين الأساسيين في المشهد السياسي السوداني حُكاما وأحزابًا اختلفوا على كل شيء إلا تعويق العملية السياسية التي بدأتها الأمم المتحددة وانتقلت الآن إلى الآلية الثلاثية.

اتفاق مدهش على إفشال خروج الدولة السودانية من عنق زجاجة الأزمة إلى فضاء الانطلاق نحو البناء والنهضة.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز