مقالات متنوعة

الدولة..مؤسسات و أدوار (4)

حوارات حول الأفكار. د. حيدر معتصم

الدولة..مؤسسات و أدوار (4)

على إمتداد تاريخنا السياسي الطويل لم تمارس الأحزاب فريضة التفكير في يوم من الأيام و لم تدع أحداً يمارس التفكير العقلاني المؤدي إلى التخطيط الشامل و الإستراتيجي المبنى على الرؤى الوطنية الكلية و مارسنا السياسة بغباء من خلف سياج من القبلية و الطائفية و الأيدلوجيا و ظللنا نرمي باللوم في أخطائنا على الأفراد و الجماعات لا على خطأ المسير ، و دائما ما نظن جازمين بأن زوال رئيس أو نظام سينهي الأزمة و سيصبح السودان وفقاً لتلك الظنون جنة الله في أرضه و عاجلاً ما تتحول الظنون إلى أحلام و الأحلام إلى قناعات نبني عليها أشعارنا و أغنياتنا و مؤانساتنا و في سبيل تلك الطنون تسفك دماء و تزهق أرواح و يتحول الوطن إلى أشباح ثم يذهب الرئيس ( عبود.. النميري.. البشير) المستهدف و يذهب النظام ( نوفمبر.. مايو.. يوليو.. يونيو) و يظل السودان كما هو بل أسوأ مما كان في أغلب الأحيان و تتحول الظنون و الأحلام إلى كابوس يؤرق مضجعنا ثم تبدأ الأحزاب تباعاً رحلة البحث عن ورقة التوت التي تغطي خطل الظنون بسذاجة لانحسد عليها و هي نتاج طبيعي لسيطرة العقل القبلي الرعوي الذي ظل يقودنا بلا وعي لعقود طويلة لنبدأ من جديد رحلة البحث عن مبررات جديدة من أجل خداع الجماهير التي ظلت بكل أسف تبلع الطعم في كل مرة و تهرول حافية القدمين خلف سراب أحزابنا الواهية الغارقة في مستنقع الجهل و عدم الإحساس بما آلت إليه أحوال الجماهير التي ظلت تدافع بوفاء عن تلك الأحزاب بنفس المنطق القديم و بذات السذاجة و بذات العقل الرعوي الغير مدرك لدوره كرقيب على المؤسسات السياسية و الحزبية.

لم تكن يوما مشكلة السياسة في السودان نتاج تصرفات قام بها السيد عبد الرحمن المهدي أو السيد علي الميرغني كرواد في المجتمع و لم تكن المشكلة ناتجة عن تصرف قام به أحمد خير المحامي أو أسماعيل الأزهري أو أو المحجوب أو غيرهم من جيل الإستقلال ولم يكن عبود أو النميري أو عمر البشير هما المشكلة و لم يكن الحزب الشيوعي أو حزب الأمة أو الجبهة الإسلامية أو غيرها من التنظيمات السياسية هي المشكلة و حتما لم يكن زوال عبود أو النميري أو البشير هو الحل كما كنا نعتقد و نظن و قد ذهب كل هؤلاء و كل ذلك أدراج الرياح و لم تحل المشكلة و حتماً سيذهب برهان و حميدتي و كباشي و ستذهب الحرية و التغيير و المؤتمر الوطني و ستظل المشكلة قائمة طالما أننا لا نفكر و نحاول أن نرى الأشياء بزاوية حادة تحلل الأحداث وفقاً للنظرة الجزئية الضيقة لا النظرة الوطنية الواسعة ثم توضع المعالجات و الحلول تباعاً و فقاً لتلك الرؤية الضيقة و هي بالطبع غير قادرة على تقديم الصورة الكاملة ولذلك غالبا ما نقوم بشخصنة الأحداث و إختزالها في أفراد أو جماعات أو أحزاب مما يؤدي إلى تكريث حالة الإحتقان الأيديولوجي و ضياع الحقوق الوطنية و حقوق الجماهير و من قبل إستمرار الأزمة إلى مالانهاية .

المشكلة ياسادتي ليست في الأفراد أو الجماعات أو الأحزاب و إنما في قصر النظر و إدعاء الطهرانية و النقاء وإلقاء اللوم على الآخرين و الإصرار على فرض الرؤية الأحادية و إعتبارها هي الصواب المطلق و ما دونها هو الخطأ المطلق وفقاً لزاوية النظر الأيدلوجية الضيقة و لذلك فإن المعضلة الأساسية تكمن في غياب الرؤية الشاملة أو تصور الدولة الناتج عن تغييب العقل الجمعي و التفكير الشامل المؤدي مباشرة لعدم إدراك ذات النخب السياسية و جماهيرها لقيم أساسية و ضرورية مثل مفهوم الدولة و مفهوم الوطن و ما هو الفرق في المعاني بين التوافق و الإتفاق و ما علاقة تلك المفاهيم بالمبادئ الدستورية و ببناء الدستور نفسه و لذلك مالم يحدث إختراق حقيقي يكسر تلك الدائرة الخبيثة و يفككها ستظل عجلة المستقبل تدور في ذات الفراغ العريض المرتكز على العقل الرعوي القائم على الأيدلوجيا و الطائفة و القبيلة على مبدأ لا أريكم إلاما أرى النافي لوجود الوطن و الغير مدرك أصلا لمفهوم الدولة و الشراكة السياسية و قبول الرأي الآخر. …نواصل

د.حيدر معتصم

صحيفة الانتباهة