العقل و التراجيديا و صناعة النصر
زين العابدين صالح عبد الرحمن
انتقد بعض المفكرين مقولة ” السياسة فن الممكن” و اعتبروها مقولة قد صدرت عن اشخاص عاجزين عن تحقيق أهدافهم الحقيقية، لذلك جاءت تبريرا للفشل. و المتابع للممارسة السياسية في الدول الديمقراطية و دور القيادات فيها لتحقيق أهداف أحزابهم، و خاصة في الحملات الانتخابية، يتبين أن السياسة تحتاج لمقدرات إبداعية و معرفية عالية و عقول مفتوحة، و عمل جماعي يعتمد على الخلق و الإبداع. و الانتخابات الاسترالية الأخيرة أظهرت أن الممكن عملية مرتبطة بقدرات العقل السياسي، و إدارته للصراع بكياسة و توظيف كل الآليات التي تساعد على تحقيق النصر. أن حملة حزب العمال أظهرت مقدرات رئيس الحزب أنتوني البانيز، و الذي استطاع أن يوصل الحزب للنصر من خلال الاستفادة من قدرته في تحليل الواقع السياسي، و لمس عصب قضايا كان السياسيون يتجاهلونها، وفوق ذلك استطاع أن يوظف التراجيديا التي عاشها في طفولته في كسب قاعدة عريضة من الشارع،
أن السياسة ليست فقط القدرة الخطابية للقائد، أو لكوادر الحزب، و لكنها تعتمد اعتمادا رئيسيا لفهم الواقع، و المكنزمات التي تحركه، و رغبات و طموحات الناس، و فتح ملفات قضايا خلافية تتحاشى الأحزاب فتحها. و من أهم العتبات التي يبدأ منها هي حسم الخلافات داخل مؤسسات حزبه، و أختيار الفريق الذي يستطيع أن يوظف الآلة الإعلامية بالصورة التي تقنع الناس و تجعلهم هم نفسهم يحملون الرسالة و يروجونها وسط الناس.
رئيس الوزراء الاسترالي المنتخب قبل أسبوع هو أنتوني البارينز من أصول إيطالية و يعتبر الأسم الأول في تاريخ أستراليا من غير الانجلوساكسون. و يعتبر من القيادات التي نشأت و تربت في كنف حزب العمال منذ أن دخل مجال السياسة. حيث تقول قصته أنه قاد مظاهرة و كان عمره 12 عاما لرفضه بيع عقارات حكومية كانت أمه تسكن فيها، و عندما دخل الجامعة لدراسة الاقتصاد انخرط في العمل الطلابي، و استطاع أن يصبح رئيس شباب حزب العمال و عمره 22 عاما. كما استطاع أن يحسم الخلافات داخل حزب العمال و يخلق قيادة مقبولة من القاعدة، فهو رجل يجيد الخطابة بوعي، و يعرف كيف يبدأ مداخلاته لجزب كل الآذان، و لديه قدرة عالية في التحليل للقضايا، الأمر الذي لا يجعل المستمع يمل من حديثه.
سرد رئيس الوزراء الاسترالي انتوني البارينز قصة حياته في غالب تراجيدي في الحملة الانتخابية، و استطاع أن يؤثر على العواطف ليس في أثرها السلبي، و لكن كرسالة إيجابية تدفع المتأثرين أن يشاركوا بقوة في حملة حزب العمال الانتخابية. و التراجيديا هي عمل فني درامي يصور مأساة في الحياة. و تقول قصة البارينز أن والدته إمرأة مقعدة تتلقى راتبا تقاعديا من الحكومة، و لكنها استطاعت بهذا الدخل المحدود أن تربي إبنها تربية جادة مكنته لكي يصبح شخصا مفيدا في المجتمع، حيث دخل كلية الاقتصاد و تخرج منها، و عاش في الأحياء الشعبية في منزل حكومي، و هذه الحياة الشعبية جعلته من تيار اليسار في حزب العمال، رغم أن الإعلام يصوره بأنه شخصية برجماتية، و يعرف كيف يحقق مكاسب لحزبه و عضويته، و عاش البارينز حياته بأن والده متوفي، حتى فاجأته أمه بعد ما أصبح رجل سياسيا فاعلا، أن والده حي و يعيش في أيطاليا و أعطته العنوان و ذهب لايطاليا في عام 2009م و زار والده في محل إقامته. هذه قصة كفاح بين طفل و إمرأة مقعدة و مال محدود أن تدفع شخصية للنصر في انتخابات استراليا، بعد ما حكم حزب الاحرار 12 عاما.
و يعتبر البارينز بأنه بطل لتعدد الثقافات فى استراليا، ويصف نفسه بأنه الشخص الوحيد الذى يحمل اسما ليس مرتبطا بالإنجليز، كما أن عدد من الشخصيات الأخرى يمثلون أصول مختلفة قد استطاعوا الفوز في هذه الانتخابات. و ليس غريبا أن تكون إعادة النظر في حقوق المواطنين الاصليين ( Indigenous Australian) الذين أهملتهم الحكومات السابقة، و لم تعتذر لهم بصورة رسمية للإنتهاكات التي رتكبت في حقهم. لذلك وعد رئيس الوزراء البارينز بإجراء استفتاء على تعديل الدستور لتوسيع نطاق حقوق السكان الأصليين، و أيضا اعتبار تاريخ استراليا يبدأ قبل 65 الف عاما هو تاريخ أقدم حضارة في العالم و هو وجود الإنسان الأصلي في استراليا و ليس تاريخ دخول الأوروبي 1788م، و هذه الوعود قد أكسبت حملته الانتخابية التأييد الشعبي من قبل السكان الاصليين و أيضا من قبل المهاجرين و الطبقات الشعبية. و من القضايا الأخرى التي ركز عليها ” إنهاء حروب المناخ” و وعد بخفض انبعاث ثاني أكسيد الكربون بنسبة 43%. و جعل أستراليا ” قوة عظمى” في مجال الطاقة المتجددة. و أيضا وعد بتقديم إعانات للمواطنين لشراء سيارات كهربائية و دعم مشاريع الطاقة الشمسية و البطاريات.
عانى حزب العمال قبل الانتخابات من الهجوم المستمر من قبل الصحافة و القنوات التلفزيونية التي قدمت انتقادات حادة للحزب، و الوعود التي قطعها الحزب التي تدعم حقوق السكان الاصليين و المهاجرين، و دعم الأعمال الصغيرة، و تخفيض تكاليف العلاج و غيرها من الخدمات التي يستفيد منها أصحاب الدخل المحدود، و يرجع هذه الهجوم لآن أغلبية هذه الوسائل الإعلامية مملوكة للأثرياء. و رغم ذلك استطاع القائمين على الحملة الانتخابية في حزب العمل أن يوصوا رسالتهم لأكبر قطاع من الجماهير، حيث الكل بدأ يتحدث أن حزب العمال قادم للسلطة. و المهاجرين يؤيدون حزب العمال لأن الدولار الاسترالي دائما ترتفع قيمته في مواجهة الدولار الأمريكي، و هذه تساعدهم على مساعدة أهلهم في المواطن الأصلية.
كما أثبتت الانتخابات أن وعي الجماهير مسألة أساسية، و هي صاحبة القول الفصل، حيث رفضت الجماهير تأييد حزب ( One Nation) هو حزب يميني متطرف، ضد الهجرة و الثقافات المتعددة، حيث جاء في أخر زيل الأحزاب المتنافسة، و ملفت للنظر أيضا أن نسبة كبيرة فازت من المستقلين هل يعني ذلك موقفا من الأحزاب؟. كما أن الناخب الاسترالي دائما لا يذهب إلي صناديق الاقتراع بحكم الانتماء السياسي، لكن يصوت للبرنامج الذي يعتقد يخدم مصالحه، لذلك تجد كثير من حزب الأحرار يؤيدون حزب العمل إذا كان برنامجه يحقق تطلعاتهم و العكس صحيح، ليس في السياسة انتماء مقدس مادامت السياسة تهدف لتحقيق مطالب و مصالح الناس. و الانتخابات في استراليا يوم واحد هو يوم ” السبت” عطلة و تبدأ من السادسة صباحا و تنتهي السادسة مساء، حيث يبدأ الفرز نفس الليلة و تظهر النتيجة. كما هناك مراكز تبدأ مبكرا قبل أسبوع من اليوم المخصص للذين يريدون السفر، أو مغادرة أماكن اقتراعهم. و التصويت في أستراليا إجباري، و الذي لا يقترع يغرم غرمات تبدأ من 100 دولار. هل نحلم في السودان الوصول للدولة الديمقراطية في ظل عجز و تناكف للنخب السياسية. نسأل الله حسن البصيرة.
صحيفة الانتباهة