“قانون التحول الديمقراطي” في السودان: هذه هي أميركا
لو قرأ أحد من جيل الستينيات، أو حتى من بعدهم، قانون التحول الديمقراطي في السودان الصادر عن الكونغرس الأميركي في 2021-2022 بعزائمه القوية في دعم ذلك التحول، لرَابَهُ الأمر. فلم نكن نُقرن في جملة واحدة بين أميركا ودعم الديمقراطية في العالم إلا في مثل تلك الجمل التي يلغي بعضها بعضاً(oxymoron) في مثل قولك “الحكومة الصومالية” مثلاً.
لم يترك القانون فرضاً ناقصاً في دعم التحول الديمقراطي المدني والسلام والاستقرار في السودان. فجاء بملابسات وحقائق استيلاء الجيش على الحكم بالبلاد في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، وعدّه خرقاً صريحاً لسياسة الولايات المتحدة في دعم الأماني الديمقراطية لشعب السودان والتحول الديمقراطي. وهو تحول اتفق لأميركا ألا سبيل إليه إلا عن طريق حكومة مدنية مساءلة تحترم حقوق الإنسان للمواطنين، وتعيش سالمة مسالمة مع جيرانها. وترمي أميركا بهذا القانون إصلاح عقدة المسألة في البلد، وهو قطاع الأمن في السودان منعاً للانقلابات العسكرية ليبقى المواطنون مستظلين بالديمقراطية والحكم المدني.
ولم يدّخر القانون وسعاً في بيان العقوبات الأميركية المشددة التي ستطاول من يعترض سبيل هذا التحول الديمقراطي، أو العمليات الديمقراطية العاقبة للانتخابات المقررة. فمن صلاحية رئيس الجمهورية الأميركية بمقتضى القانون فرض العقوبات على أي شخص، أو جماعة، يقرر هو أو هي بعد إجازة هذا القانون، أنها مسؤولة، أو شريكة، في عمل مباشر أو غير مباشر لتقويض انتقال السودان للديمقراطية.
وحدد القانون تسعة أوجه لمثل هذه العمل المزعزع للتحول الديمقراطي، ومنها حجب وسائط الاتصال والمعلومات والإنترنت في البلاد، وكذلك عدم التحقيق في جرائم انتهاكات حقوق الإنسان فيها، وانتهاك حرية التعبير. وللرئيس الأميركي إيقاع العقوبة على مال مرتكب كبيرة مخالفة القانون كان لهذا المخالف حق التصرف الكلي في المال أو الجزئي منه. وله أيضاً أن يعاقب أي كيان مملوك جزئياً أو كلياً للأمن والاستخبارات يقوم به أشخاص منتفعون بمال مرموق من هذين المؤسستين. وله بمقتضى القانون منع التداول لممتلكات أي منشأة مملوكة لأجنبي في الولايات المتحدة، والتصرف في أرباحها، متى طاولها القانون الأميركي. وتصل عقوبة مرتكب كبيرة مخالفة قانون التحول الديمقراطي في السودان إلى حد نزع فيزا الدخول لأميركا.
كانت عجائب الولايات المتحدة التي لا تنقضي مما نلقاها بعبارة تقليدية هي “هذه هي أميركا”، ولكن بلغ هذا القانون من الغرابة أن قال عنه الناس، “أهذه هي أميركا؟”. وفتّشوا من فرط فجوة التصديق عن دخيلة القانون المنشرح للديمقراطية في السودان ورأوا كالعادة مأرباً أميركياً خفياً من ورائه.
ولأميركا مأرب من وراء القانون، وهو حماية أمنها الوطني، وصرحت به طواعيةً بما لا يحتاج منّا إلى تفتيش. فقانون الانتقال الديمقراطي في السودان مما ألزمت الأولى نفسها به تنفيذاً لقانون آخر من الكونغرس، وهو قانون محاربة نظم اللصوصية الروسية وغيرها في أعالي البحار (Countering Russian and other Kleptocracy) المرموز له بـ(CROOKS)، وهو “المُحتال” في لغتهم.
ولا يخفي هذا القانون، الذي استمد منه الكونغرس تشريعهم لقانون الانتقال الديمقراطي في السودان، أن مقصده الأعلى هو صون الأمن الأميركي. وصدر القانون عن المحتالين الروس وغيرهم بوعي ناقد لتأخر أميركا في إسعاف من خرجوا ضد الفساد وللديمقراطية بثورات في بلادهم في مثل أوكرانيا في 2014 وأرمينيا في 2018 لتستديم ديمقراطيتهم.
هل يغير قرار مجلس الشيوخ الأميركي طبيعة التحول في السودان؟
فمن رأي واضعي القانون أن حرب الفساد مما استوجب المُوالاة. فالطرق على الفساد ساخناً للإصلاح هو السبيل للقضاء عليه. فإذا ما انفتحت الفرصة النادرة للإصلاح وجب على من نهضوا به أن يوالوه بسرعة وجرأة، بينما لا يزال للدفع السياسي والأخلاقي له بين الناس أجيج. وهذه المباغتة هي الترياق دون عودة الحرس القديم الخرع إلى مواقع السلطان. فجاءت في حيثيات القانون عبارة صريحة أنه لو هبّت أميركا تعين بالمال من عزموا على الحكم الديمقراطي فيهم لجعلوا “أميركا أكثر أمناً”. فالاستثمار في هذه الديمقراطيات في العالم، برأي القانون، بمثابة “قوة ناعمة لأمنها”.
وعليه، التزمت الولايات المتحدة في هذا القانون بنجدة كل بلد منتقل للديمقراطية بعد حكم ديكتاتوري فاسد من صندوق مخصص للغرض بوزارة الخزانة. ويجري تمويل صندوق القانون من حصيلة تطبيق قانون آخر هو قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة، المرموز له بـ”FCPA”، وهو قانون صدر في 1973 يجرم رجل الأعمال الأميركي إذا ما رشا أجانب في بلادهم لقضاء وطر منهم. ودخل الغرامات من القانون طائلة. وخصص القانون لصندوق المحتالين خمسة ملايين دولار من كل غرامة خمسين مليون دولار وأكثر تأتي من تطبيق قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة. كما ألزم القانون وزارة الخارجية أن يكون بين سفاراتها في العالم مكلف منها لينسق الجهود في البلد المعين لمحاربة الفساد. وألزمها كذلك باطلاع الكونغرس عن نشاطاتها في حرب الفساد، وتعميم معارفها عنه ونشاطها على الإنترنت.
ويُساور الولايات المتحدة وفي واقع الحال خوف حقيقي على أمنها القومي من فساد النظم الديكتاتورية في العالم. فجاء في مذكرة للرئيس جون بايدن في ديسمبر (كانون الأول) 2021 قوله، “إن الفساد الكوكبي صار أولوية في أمن أميركا الوطني”. ولم يكتفِ بالقول، “إن الأموال التي تتسرب منه لها مفسدة لدورة المال الطبيعية فيها فحسب”، بل زاد “إنها تعدّت هذه الدورة لتهدّ حيل المواطن الأميركي العادي. فأموال الفساد المغسولة، في قوله، دخلت سوق العقارات عندهم وجعلت ملكية الأسر متوسطة الحال لمنزل مستحيلة حتى لم يعد سؤالهم إن كان بوسع الواحد منهم امتلاك بيت، بل إن كان بوسعه إيجار واحد منها؟”. وضرب التقرير مثلاً: فتم بين 2015 و2020 غسل ما قيمته 2.3 دولار في سوق العقار الأميركية. فتورمت به أسعار شراء المنازل فوق معدلاتها الحقيقية. وسبق للولايات المتحدة أن ألزمت الوكالات العقارية بالكشف عمّن وراء أي صفقة لشراء بيت زادت على 300 ألف دولار. وخرج هذا المال الذي أزكم أنف أميركا من مثل أفريقيا التي شكل مالها المنهوب 3.7 من ناتجها الإجمالي.
وتصادف مع إعلان مذكرة بايدن أن نشرت “أوراق بندورا”، وهي تحقيقات عن لصوص المال في العالم التي قامت بها منظمة الصحافيين الاستقصائيين العالمية، تقريراً في جريدة “واشنطن بوست” عن متاعب الأميركيين تحت نير تدفق المال الحرام إلى اقتصادهم. وركز التقرير على سوق العقارات في ضاحية تمي سو لين بمدينة لا فيرجني من أعمال حاضرة ناشفيل بولاية تنيسي. فدخلها هذا المال السحت مغسولاً بواسطة وكالة في جزر المحيط الهندي، فكادت تستولي على كل عقار فيها بدفعها عدّاً ونقداً لكل معروض للبيع، وبثمن فوق طاقة الأميركي العادي، بل وأثقلت على مستأجري المنازل، فرفعت قيمته إلى 30 في المئة ما بين 2016 و2020.
سمعت ممن استنكروا قانون التحول الديمقراطي في السودان قولهم إن وراءه من أميركا ما وراءه. ولا يحتاج المرء في نبش هذا “الما وراء” لأكثر من الإحاطة بسياقات القانون ومحاضنه في السياسة الأميركية ليعرف ألا جديد في مطامع واشنطن من ورائه: أمن أميركا القومي.
عبد الله علي ابراهيم
إندبندنت عربية