أيوب صديق: ذكرياتٌ من أيام عملي في هيئةِ الإذاعةِ البريطانية
بيان ختامي تلك المقالات الأربعة، التي كتبتُها هنا أفند فيها ما كتبه عني ذلك الذي رددتُ عليه فيها، والتي كان آخرها متعلقا بعملي في هيئة الإذاعة البريطانية، بمناسبة ذلك العمل، طلب مني أحد الأخوة الكرام أن أكتب لهم عن شيء من ذكرياتي، من أيام عملي في تلك الإذاعة، التي قضيتُ فيها ثلاثة وعشرين عاماً، هي أمتع سني عملي في محال الإعلام. وكانت شهرتي عند المستمعين لها في غالبيتها ذات صلة بقراءة الأخبار، التي قال عني بشأنها (غيمون مكليلان) آخرُ مدير للقسم العربي عاصرته فيه، في تقرير كتبه عني: (( كان أيوب ذا أسلوب مميز في قراءة الأخبار جعله محبوبًا لدى الكثيرين من مستمعينا في أنحاء العالم)) ومن ذلك العمل مرت بي لحظاتٌ ظلت راسخة في ذاكرتي إلى اليوم. منها أذكر أنني كنتُ ذات يوم في الأستديو وقد فرغتُ للتو من قراءة الأخبار، فإذا بهاتف الأستديو الذي أمامي يُضيء، فقال لي مهندس الصوت:” لديك محادثة من استراليا” وأنا لا أعرف أحدًا في استراليا إلا اسم رئيس وزرائها، من خلال ورود ذكره في الأخبار. فوصَّلني المهندسُ بالمتحدث الذي سألني قائلا: (هل أنت أيوب صديق؟ فقلت له نعم، فقال لي: يا أخي أنت الوحيد الذي اخترته من دون الآخرين في الإذاعة، لتقدم لي مساعدة في أمر هام جدا، فقلتُ له قل وأرجو أن يكون ذلك في استطاعتي. فقال لي أنا اسمي فلان الفلاني، لبناني، من بيت فلان بالمنطقة الفلانية بلبنان وأقيم الآن في أستراليا، وكما تعرف ظروف أحوال الحرب الآن في لبنان، فأنا أريد من أسرتي أن تقابلني في قبرص، في التاريخ الفلاني، بالمنطقة الفلانية بالمدينة الفلانية. وهذا ما أريد منك مساعدتي فيه. فقلتُ له أسأل الله تعالى أن يفتح علي بما اساعدك به. كتبتُ منه المعلومات التي ذكرها، وأنهى المحادثة. وأنا أفكر في هذه الأمانة التي حملني إياها، وكيف يمكنني مساعدته بقدر هذه الثقة التي وضعها في شخصي! نزلتُ من الأستديو الذي كان في الطابق السابع من مبنى (بوش هاوس) إلى مكاتب التحرير في الطابق الرابع منه، وسألتُ الزملاء؛ عن مَن الذي عليه تقديم الحلقة المقبلة من برنامج ما يطلبه المستمعون ا؟ فقالوا لي فلان. فذهبتُ إليه وقلتُ له هل عندك أغنية لبنانية؟ فقال لي نعم، فقلتُ له طيب، أنا سأكتب لك كلاما رجاء أن تذيعه كما هو، لا تنقص منه ولا تزيد عليه. فكتبتُ:(أنا اللبناني، فلان الفلاني من المنطقة الفلانية بلبنان، والمقيم بأستراليا، أهدي الأغنية الفلانية إلى أسرتي بالمنطقة الفلانية بلبنان، وأرجو منها أن تقابلني في قبرص، في المنطقة الفلانية بالمدينة الفلانية في الوقت الفلاني)، فأعطيتُ الزميل مقدم حلقة ما يطلبه المستمعون ذلك الإهداء وتركته. ونسيتُ الموضوع، وبعد مدة من الزمان وصلتني رسالة بالبريد من ذاك الأخ اللبناني يشكرني فيها شكراً كثيرًا ويدعو لي، وقال لي إن أسرته سمعت تلك الاغنية في ذلك البرنامج، وفعلاً قابلته في قبرص كما طلب مني. ساعتها شعرتُ بارتياح غامر، لتحقيق أمر كان أشبه المستحيل، من رجل حملني تلك الأمانة كما قال دون زملائي، وقد أراد الله تعالى أن يجمع بينه وبين أسرته في قبرص.
اللحظة الأخرى التي ما زالت عالقة بذاكرتي أنني استلمتُ رسالة من مستمع من إحدى دول المغرب العربي اسمه إبراهيم، أبدى لي فيها إعجابه بي، وقال لي إنه رُزق مولودًا سماها (أيوب صديق) فأصبح اسم المولود (أيوب صديق إبراهيم) ثم أرفق لي مع الرسالة شهادة تسجيل المولود(بيان حالة الولادة) وطلب مني أن أرسل إليه تسجيلا صوتيًا مني على كاسبت، حتى عندما يكبر المولود يُسمعه صوت الشخص الذي سماه عليه. وفعلا سجلتُ له كلمات اُبارك له فيها المولود (أيوب صديق إبراهيم) متمنيًا أن ينبته الله نباتا حسنا ويجعله رجلاً صالحًا بارًا بهم. فوصله الكاسيت ووصلتني منه رسالة يشكرني فيها كثيرًا على ذلك.
كذلك من اللحظات التي ظلت عالقة بذاكرتي أنه كان لنا مديرٌ للقسم العربي في الإذاعة اسمه دكتور(جِمْ نوريس) سافر ذات مرة في مهمة رسمية إلى العراق، وأثناء غيابه في رحلته تلك لقيني نائبه (ديفد بكلي) فقال لي إنني تلقيتُ رسالة من الرئيس (ويعني المدير) يقرئك فيها السلام ويقول لك عندي لك خبر طيب. وبعد عودة المدير قابلته فقال لي، إنني كنتُ نازلًا في فندق في بغداد، وبحكم أنني مكثتُ في ذلك الفندق بعض أيام، نشأت بيني وبين شاب سوداني يعمل في الفندق معرفة، وفي يوم سألني ذلك الشاب عن عملي فقلتُ له إنني أعمل في هيئة الإذاعة البريطانية في لندن، فقال لي في إذاعة لندن؟ فقلتُ له نعم في إذاعة لندن، فقال لي: أنت تعمل مع أيوب صديق؟ فقلتُ له نعم أنا أعمل مع أيوب صديق، وكان سعيدًا جداً أن رأى شخصًا يعمل معك. ثم قال لي ذلك المدير وأنا كذلك شعرتُ بسعادة لسعادته، وهذا هو الخبر الطيب الذي حرصتُ على أن أبلغك إياه. فشكرتُه على ذلك، وأثنيتُ له على تواضعه الجم إلى تلك الدرجة. إذ لو كان هو مديرًا عربيا في أي مؤسسة والله أعلم، لقال لذلك الشاب، إنما أيوب صديق يعمل تحتي وأنا رئيسُ رئيسه. ومثل هذا الشعور ليس مستغربًا من المسؤولين البريطانيين، الذين مهما علت مراتبهم الوظيفية فإنهم يشعرونك دائمًا بأنك زميل لهم في العمل ولست مرؤوساً لديهم.
ومن تلك اللحظات كذلك التي لا تُنسى عندي، أنني كنتُ في زيارة للمملكة العربية السعودية، وزرتُ أثناءها المدينة المنورة، التي زرتُ فيها دار مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف. وهناك التقيتُ بأخ سعودي كريم، يعمل في تلك لدار المباركة، حيث رحب بي ترحيباً حارًا وقال لي إنه كان دائمًا يتمنى رؤيتي منذ مدة، لأنه كان يسمعني دائمًا من الإذاعة، إلى آخر ما قال من مدح لشخصي الفقير إلى ربه، وسألني كم من الأيام أنا باقٍ في المدينة؟ فأخبرتُه بأنني إن شاء الله تعالى باقٍ لبضعة أيام، وقبل سفري جاءني بساعة قيمة، وقد كتب بداخلها اسمي(أيوب صديق) وما زالت معي، وكلما وقع نظري عليها تذكرتُ ذلك الأخ الكريم وتلك الزيارة المباركة. وذات يوم كنت أتمشى في شارع أكسفورد الشهير في لندن، فالتقيتُ بأخ سوداني أعرفه ومعه أخ سعودي، فعرفني به، وعرف الأخ السعودي بي. ولما عرف الأخ السعودي شخصي وأنني أنا الذي يسمعه من الإذاعة قال لي: عندما امرأة كبيرة السن في المملكة لا تتعالج إلا عند طبيب سوداني، وإذا أخذت إلى المستشفى ولم تجد طبيبا سودانيا لا تتعالج. وإذا قيل لها عن خبر أذاعته الإذاعة في لندن تسألهم هل إذاعة المذيع السوداني؟ فإن قيل لها نعم صدقته وإن قيل لها لا لا تصدقه. وأكتفي بهذا القدر من تلك الذكريات.
وإلى لقاء آخر في موضوع مقال آخر ان شاء الله.
صحيفة الانتباهة