هل يطوي لقاء البرهان وآبي أحمد الخلافات بين السودان وإثيوبيا؟
قبل لقاء رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان برئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، في نيروبي، على هامش القمة الاستثنائية الـ39 للهيئة الدولية للتنمية “إيقاد”، التي يرأس دورتها الحالية البرهان، كان عنوان ملفات الأزمات بين السودان وإثيوبيا يطغى عليها طابع التحدي والعناد والرغبة في المواجهة والانتقام.
وبعد اللقاء، يبدو أن الخلافات السابقة والأزمات المتفجرة، بين وقتٍ وآخر، في طريقها للوصول إلى منطقة وسطى غير المواجهة المباشرة بالدخول في حرب، وهذا التطور ينشأ كوضع مستجد على الرغم من تمسك كل طرف بموقفه من كل أزمة، لكن يرتبط هذه المرة بتطورات أخرى ربما تتضح خطوطها العريضة في الفترة المقبلة، ولا يعبر الموقف الإثيوبي عن أي تنازل حينما كتب آبي أحمد في حسابه الرسمي على “تويتر”، “أقر كلانا بأن بلدينا لديهما العديد من عناصر التعاون للعمل عليها بسلام، وعلاقاتنا المشتركة تتجاوز أي نزاع، كلانا ملتزم بالحوار والحل السلمي للقضايا العالقة”، كما لا يعبر موقف البرهان عن أي ضعف حينما عبر لمبعوثة الاتحاد الأوروبي للقرن الأفريقي أنيت ويبر، عن حرص السودان على الحفاظ على علاقات سوية ومتزنة مع إثيوبيا، ثم تعهد، في تصريح مشترك مع أحمد بعد اللقاء، بطي الخلافات بين السودان وإثيوبيا وفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين.
ويشكل لقاء البرهان مع أحمد، تحولاً نوعياً في تعاطي البلدين مع خلافاتهما، وإن كان من الصعب القرار بطي صفحة الخلافات كما جاء في اللقاء على هامش قمة محددة مسبقاً وتجمع البلدين بوصفهما عضوين فيها، لمناقشة قضايا القمة وملفاتها الرئيسة والتحديات التي تواجه الإقليم متمثلة في “قضايا السلم والأمن، وقضايا الجفاف والتصحر والتغيرات المناخية، وقضايا الأمن الغذائي، وتداعيات كورونا وأثرها على الوضع الاقتصادي في الإقليم”.
جدلية الجوار
وتأخذنا هذه المقدمة إلى المسار المركب في حلقة دائرية بخصوص جدلية الجوار السوداني الإثيوبي، وهو مسار يتخذ بنية متجذرة لا تنفصم عن الزمان والمكان، حتى لو تعددت حلقاته وسلسلة أزماته. في هذه الظروف، تتصاعد المطالب بحل الخلافات وإيقاف سلسلة الشدّ والجذب في العلاقات الإقليمية، وأكثرها تعقيداً وإحاطة بالعقبات والتحديات تلك التي بين محوري السودان وإثيوبيا، وإن كانت الوقائع تباعد بين البلدين، فإن هناك أصواتاً تشجع فكرة الاتحاد بينهما تبني محدداتها على التداخل الجغرافي والسياسي والاقتصادي والأمني والإنساني بما فيها قضايا اللجوء والهجرة وغيرها.
وعلى الرغم من التركيز على وحدة الهوية التاريخية واختلافاتها الثقافية الناشئة بعد ذلك، للترويج لفكرة الاتحاد، سعى بعض الكتاب السودانيين في هذا الاتجاه، إلى تجسيد هذه الرؤية لتشكل أحد محددات السياسة الخارجية السودانية.
وفي هذا السياق، قال الكاتب السوداني النور حمد في سلسلة مقالات بعنوان “لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو مارد السهل؟”، إنه “من نظرة عابرة للهضبة (إثيوبيا) والسهل المنخفض المجاور لها (السودان) الذي تطل عليه من ارتفاع يصل إلى سبعة آلاف قدم، تتضح معالم التكامل”، مضيفاً، “ما نراه مجرد سمات منعزلة تخص كل إقليم أو كل قطر، على حدة، ليست واقعة، في حقيقة أمرها، ضمن هذا الإطار المضلل الذي نراه فيها، وإنما هي واقعة في حقيقة أمرها في تيارات الحراك الكلي الذي يعمل على التوحيد ببطء، ولكن بكل تأكيد. إن الذي يعوز أي إقليم من الأقاليم، ويكون متوفراً في الإقليم الآخر المجاور، إنما يمثل في حقيقة الأمر عنصراً من الترابط والتكامل المستقبلي بين الإقليمين”، غير أن مشروع الاتحاد هذا ظل مشروعاً حالماً في ظل التحديات السياسية والاقتصادية والنزاعات داخل البلدين، كما التحديات الداخلية الأخرى وعلاقات أي منها الدولية.
تحديات ماثلة
تدور الخلافات بين السودان وإثيوبيا حول قرار إثيوبيا إنشاء “سد النهضة الإثيوبي العظيم” عام 2010 على النيل الأزرق وعلى مقربة من الحدود السودانية، وكان الخلاف بين دولة المنبع (إثيوبيا) ودولتي المصب (السودان ومصر)، حول بنود الاتفاق، ففي حين طالب السودان ومصر بالالتزام بالاتفاقيات والوثائق التاريخية للحفاظ على حقوقهما في مياه النيل، رفضت إثيوبيا ذلك، وفضلت وثيقة مرنة تقول، إنها لحفظ حقها السيادي في مياه النهر، وقبل أن يُحسم هذا البند، ومع مضي إثيوبيا قدماً في تنفيذ المشروع، ظهر خلاف جديد حول معدل ملء السد، وظل يتجدد كل عام خلال مواسم الأمطار.
هناك أيضاً الأزمة الناجمة عن الحرب في إقليم “تيغراي”، والتي تتهم فيها الحكومة الإثيوبية السودان بإيوائه قادة “الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي” وتوفير التسهيلات ودعم إثنية “التيغراي” ضد “الأمهرة”، ولكن، على الرغم من إيواء السودان للاجئين الإثيوبيين من تلك الحرب، ومحاولات تفنيد هذا الاتهام، فإن الخلاف لم تتم تصفيته بشكل كامل، وقد لا يتم ذلك إن لم ينته الصراع هناك.
وأجواء هذه الخلافات لم تنفصل عن الخلاف الحدودي التاريخي بين البلدين الذي تجدد بإعلان الخرطوم في 31 ديسمبر (كانون الأول) 2020، عن سيطرة الجيش على كامل أراضي بلاده في منطقة “الفشقة” على حدود إثيوبيا، ثم تواصل بإعلان السودان عن قيام إثيوبيا بإعدام سبعة جنود ومدني، قال إنهم كانوا أسرى لدى إثيوبيا، وعليه، استدعت الخارجية السودانية سفيرها لدى إثيوبيا للتشاور، كما استدعت السفير الإثيوبي في الخرطوم للاحتجاج على الحادثة.
فضاءات مشتركة
وعلى الرغم من أنه يمكن تلمس الاهتمام بإيجاد حلول عاجلة للخلافات بين السودان وإثيوبيا، فإن تأثيرات التواؤم بين تصورات البرهان وآبي أحمد لحل هذه الخلافات، إن تعدت الإطار الزمني لقمة “إيقاد”، ستكون أوضح على منطقة القرن الأفريقي كساحة للتنافس الإقليمي والدولي، أكثر منها على داخل البلدين، على اعتبار أن أجنداتها الإقليمية المرسومة، تتطلب تعاوناً ومساعدة دولية لتحقيقها، ما يستلزم الظهور أمام المجتمع الدولي بمظهر الاتفاق لا الخلاف.
وهذا ربما يفسر تغير موقف آبي أحمد المعروف بعناده، من الصلابة إلى المرونة بالتوجه للقاء البرهان، والتعاون مع بلد في أشد حالات الاضطراب السياسي والاقتصادي التي تمر بها على طول تاريخها. إذا تجازونا خطاب “الجوار التاريخي والجغرافي” والوجود التاريخي الذي كان لا يفصل بين السودان وإثيوبيا إذ اتخذت كل المنطقة اسماً واحداً من “الحبشة” الموطن الأصلي لمملكة “أكسوم” التاريخية، لتمتد عبر “الإمبراطورية الإثيوبية”، وترتبط بمملكة “مروي” في وادي النيل الأوسط، فإن السودان يمثل في حسابات إثيوبيا الاستراتيجية بوابة رئيسة إلى منطقة وسط وغرب أفريقيا، كما تمثل دولة جنوب السودان بوابتها لأفريقيا جنوب الصحراء، وهي جزء من “استراتيجية تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية مع أفريقيا” التي تنشط فيها المنظمات الإقليمية للتوأمة بين شرق وغرب أفريقيا.
دور “إيقاد” في حل أزمة فرقاء الحكم في السودان
وإذا كانت تبلورت عند أحمد مسألة الانفتاح على هذا الجزء من القارة، فإن إثيوبيا تعني بالنسبة للسودان نموذجاً سياسياً فريداً ومناسباً للسودان بحكم تشابه الظروف بين البلدين، ونموذجاً اقتصادياً، إذ كادت إثيوبيا تحصل على لقب “نمر أفريقيا”، لولا اندلاع حرب “تيغراي” التي زعزعت خطط الدولة وطموحات آبي أحمد السياسية والاقتصادية.
وبينما ترتكز العلاقات السودانية الإثيوبية على مفاصل سياسية واقتصادية وتاريخية وجغرافية، فإن الجغرافيا تأتي على رأس هذه العوامل وهي المتنفذة في الدور الذي يلعبه توافق الرؤى السياسية بين البلدين، لا سيما عندما يتعلق الأمر بتقريب الفوائد واستبعاد عوامل التنافر، ويكون هذا الفضاء حاضراً بين البلدين بتأثيراته المشتركة عندما تكون منطقة القرن الأفريقي إحدى ساحات صراع النفوذ بين القوى الدولية.
مكاسب مأمولة
وسيؤدي هذا اللقاء السوداني- الإثيوبي الذي ربما يحمل مكاسب عدة للطرفين، إلى إحداث تحسين مضطرد في النظر إلى هذه الأزمات بمنظور آخر وربما توضيح أكثر للمواقف، ويمكن أن يحصل السودان على دعم إثيوبي لرفع تعليق عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي التي تمت في 27 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 بعد الإجراءات التي اتخذها البرهان، وعدها الاتحاد الأفريقي “أمراً غير مقبول وإهانة للقيم المشتركة والمعايير الديمقراطية للاتحاد الأفريقي”، أما بالنسبة لإثيوبيا، فبينما تسعى لزيادة قوتها باستعادة “الإمبراطورية الإثيوبية”، فستجد نفسها في حال توازن مستمر مع جيرانها بفعل الصراعات السياسية والإثنية المنتشرة في المنطقة، بسبب التحولات الإقليمية والمؤثرة في تشكيل الائتلافات الدولية من حولها، بينما يعيش السودان وضعاً مضطرباً وأجواء من عدم التوازن، تفترض نظرية “توازن القوى” انضمام الطرف الأضعف للأقوى نسبياً لإعادة تأسيس التوازن تبعاً للتفاعل السياسي.
ووفقاً لنظرية “انتقال القوة” التي تفسر التفاعل بين الدول العظمى والمهيمنة حماية لمصالحها السياسية والعسكرية والاقتصادية في منطقة القرن الأفريقي وامتداداتها، ثم انعكاسها على المستوى الإقليمي، فقد تؤدي دولة متوسطة القوة مثل (إثيوبيا) دور الدولة المهيمنة في منطقة مليئة بالدول “الضعيفة”، وهذا ما يمكن ترجمته نزولاً عند مقاربة التفسير بأن إثيوبيا دولة “متوسطة القوة”.
قابلية الحل
في موازاة هذا الواقع، تبرز إشكالية تتعلق بالدورين السوداني والإثيوبي في معالجة ملفاتهما وطي صفحة الخلافات، وهو ما قد يحدث بتغليب مصلحة البلدين، أو يتعثر بتضخم التحديات. وقد يكون هذا اللقاء “على هامش قمة إيقاد”، خاطفاً تغلب عليه المجاملة بين دولتين جارتين أكثر مما يؤمل في سبر أغوار قضايا هذه الملفات.
ويتوقف ذلك من جهة إثيوبيا على الموقف المتمايز في العلاقة مع السودان، بما يسمح لأديس أبابا بأن تكون وسيطة محتملة لإحداث توافق دولي حول الخرطوم بإبعاد شبح العقوبات عنها، وإعفاء الديون وغيرها. وهذا يتطلب الاستفادة مما حصل عليه آبي أحمد من رضا دولي بعد اتفاقية السلام التي وقعها مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي في يوليو (تموز) 2018، وأنهت الحرب التي استمرت عقدين، وعلى الرغم من الوضع المستجد بعد ذلك بسبب حرب “تيغراي”، والضغوط الدبلوماسية من الولايات المتحدة، فإن آبي أحمد يراهن على مواقف إقليمية داعمة له، وربما تكشف الأيام المقبلة عن موقف السودان منها، وما يوحي بتقاطع هذه الأحداث، هو إعلان البرهان قبيل لقاء نيروبي عدم مشاركته في الحوار السوداني، ما يهيئ له بصورة غير مباشرة الوصول إلى موقف دولي وإقليمي يعزز وجوده، مع استمرار بعثة “يونيتامس” في صياغة ورعاية الحوار مع الأطراف السياسية الأخرى.
هذا اللقاء يفتح المجال لأخذ لحظة الاعتراف السوداني الإثيوبي بقابلية هذه الأزمات بين الدولتين للحل، وكما قد تخفت الاتهامات الإثيوبية للسودان بدعم “تيغراي”، وتتلاشى التهديدات الإثيوبية على الحدود السودانية، ويستمر ملء سد النهضة بأقل الأضرار بالنسبة للسودان وفق صيغة اتفاق جديد، فإن التطمينات ستستمر بضرورة طي صفحة الخلافات بين البلدين، ولكن مستوى كلفتها يعتمد على احتمالات استمرار أو تغير نظام الحكم في البلدين.
مني عبد الفتاح
إندبندنت عربية