عثمان ميرغني يكتب.. ما وراء زيارة السفير البريطاني
في يوم الجمعة، فوجئ السودانيون بالسفير البريطاني السيد جايلز ليفر يتكبد مشاق السفر عبر طريق بري فقير وعر يفتقد لكل معايير السلامة ولمسافة حوالي 400 كيلومتر ذهابًا وإيابًا شمال الخرطوم..
وانتشرت عبر وسائط التواصل الاجتماعي صور الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي بالسودان، في بيته الريفي بمنطقة ”قندتو“ التي يقضي بها عادة عطلات الأعياد، ويجلس بجانبه السفير البريطاني، وظهر الأمر وكأنها زيارة معايدة اجتماعية عفوية.
والحقيقة أن أيام العيد وعطلته انتهت قبل يومين، بل وعاد الرئيس البرهان إلى الخرطوم مباشرة بعد مغادرة السفير البريطاني، فلو كانت معايدة عادية لكان الأفضل الانتظار بالخرطوم للقاء البرهان بالقصر الجمهوري الذي لا يبعد عن السفارة البريطانية أكثر من كيلومتر واحد بدلًا من تكبد وعثاء السفر.
لقاء السفير البريطاني بالبرهان لا يبعد كثيرًا عن البيان الصادر من الاتحاد الأوروبي ومنظومة الترويكا ”الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، والنرويج“ قبل يوم واحد من زيارة السفير البريطاني للبرهان، الخميس أمس الأول.
البيان حث الجيش السوداني على ”الالتزام بوعده، والانسحاب من الساحة السياسية“ بعد أن تتفق القوى المدنية على حكومة تنفيذية.
ولكن الفقرة الأهم في البيان تقول: ”نحث جميع الفاعلين السياسيين الملتزمين بالانتقال الديمقراطي على المشاركة سريعًا في حوار يشمل الجميع لتشكيل حكومة انتقالية مدنية“.
ويحدد البيان تفاصيل الحكومة (وإجراءات اختيار رئيس حكومة انتقالي وغيره من المسؤولين الأساسيين وآلية لتسوية الخلافات للمساعدة في تفادي وقوع أية أزمات سياسية مستقبلًا).. ثم يمضي أبعد من تكوين الحكومة فيطالب البيان: ”كما يَلزم أن تُفضي هذه العملية إلى اتفاق يحدد جدولًا زمنيًا واضحًا لإجراء انتخابات حرة ونزيهة“.
مجمل البيان لم يخرج -قيد أنملة- من خطاب البرهان الذي تفاجأ به الجميع، يوم الأحد 3 يوليو 2022، وأعلن فيه خريطة طريق لانسحاب القوات النظامية من الحُكم ودائرة العمل السياسي، ولكن بعد تكوين حكومة تنفيذية متوافق عليها بين المكونات المدنية.
ولمزيد من تأكيد جدية الالتزام بهذا الوعد، صدر قرار من البرهان بإعفاء المدنيين الذي عُينوا في مجلس السيادة الانتقالي بعد 25 أكتوبر 2021.
ولأن المكونات المدنية خاصة الحزبية لم تستطع التقدم إلى الأمام والتوافق على حكومة تنفيذية تتسلم مفاتيح القصر الجمهوري ومقر رئاسة مجلس الوزراء، جاء بيان الترويكا والاتحاد الأوروبي لحث ”جميع الفاعلين السياسيين الملتزمين بالانتقال الديمقراطي على المشاركة سريعًا في حوار يشمل الجميع لتشكيل حكومة انتقالية مدنية“.. ”وإجراءات اختيار رئيس حكومة انتقالي وغيره من المسؤولين الأساسيين“.
من الواضح أن مجموعة الترويكا (الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، والنرويج) إضافة إلى الاتحاد الأوروبي، تضع ثقلها كله خلف خريطة الطريق التي أعلنها خطاب البرهان، وتراهن على أنها المسار الأسرع والأضمن للخروج الآمن من نفق الأزمة السياسية السودانية.
ويبدو أن رفض قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي – لهذه الخطة، واستمرار تعويلها على استلام السلطة بالطريق الثوري، ربما هو العائق الأهم في إكمال انسحاب الجيش من الساحة السياسية وحكم البلاد.
لكن مع ذلك قد لا يكون هذا كافيًا لتفسير رحلة السفير البريطاني من الخرطوم إلى منطقة ”قندتو“ للقاء البرهان، والإمعان في محاولة طلاء الزيارة بمظهر اجتماعي مرتبط بعيد الأضحى.
خلف الكواليس، تتدحرج كثير من كُرات الثلج لتعجل بتشكيل مشهد جديد قد يتجاوز تمامًا الأزمة السياسية في شكلها الفوقي المرتبط بهياكل الحكم ليضرب عميقًا في وحدة الدولة السودانية.
التشاكس السياسي بين الأحزاب السودانية ينتقل بسرعة إلى مرحلة ”الاحتراب السياسي“، ومزيد من الاستقطاب الذي يتراكم في مسارين الأول إيديولوجي سياسي، والثاني جهوي وقبلي، ويشتركان في كون كلا المسارين يهدفان للتغيير الثوري المستند على القوة وامتشاق السيوف.
في أقصى شرق السودان، وصلت الخلافات مرحلة المراهنة على تعبئة قبلية عنصرية تستقوي بالغبن المتراكم في النفوس لعقود طويلة جراء غياب التنمية والاهتمام من المركز.
أما غرب السودان المكتوي أصلًا بنيران الحرب لقرابة العقدين، فلايزال مئات الآلاف مشردين بين معسكرات النزوح واللجوء، بينما لا يمر شهر دون مذابح دموية نتيجة احتكاكات قبلية مدعومة بالسلاح.
وتواجه اتفاقية السلام الموقعة في مدينة ”جوبا“ عاصمة جمهورية جنوب السودان، أكتوبر 2020، تحديات كبيرة خاصة في البنود الأهم التي ترتبط بالترتيبات الأمنية، واستيعاب المقاتلين القدامى في الحياة المدنية أو العسكرية.
وتستمر الاحتكاكات الدموية بين المكونات القبلية في جنوب كردفان، والمفاجأة دخول ولاية النيل الأزرق خلال اليومين الماضيين في حلبة الصراع الأهلي بمقتل حوالي 15 وجرح العشرات بمدينة الدمازين، وقبلها بمنطقة قيسان الحدودية، وأكدت معلومات من شهود عيان باستخدام السلاح الناري الذي لا يتوافر إلا لدى جهات محددة.
لكن التطور الأكثر خطورة في السياق العام، هو تسيد خطاب الإثارة والتحشيد القبلي حتى في المناطق التي كانت بعيدة تمامًا عن الصراعات القبيلة، مثل ولاية نهر النيل التي ينتمي إليها رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول عبد الفتاح البرهان شخصيًا.
في خطاب بمناسبة اجتماعية في منطقة ”كَلِي“ بولاية نهر النيل تحدث البرهان ارتجالًا وبصورة عفوية وطارت كلماته بسرعة عبر الوسائط لتشعل جدالًا واسعًا حول تفسير جملة وردت في حديثه كان يمتدح فيها أهل الولاية، ويحثهم على الاهتمام بحقوقهم، ثم انزلقت عبارة ”هم لا يشبهوننا“، وفُسرت بما يخدم الخطاب العنصري السائد هذه الأيام في مختلف أرجاء السودان.
من الواضح أن المهددات باتت أعجل وأقرب من خريطة الطريق التي طرحها خطاب البرهان في بداية هذا الشهر، والمعلومات التي تدركها المنظومات الدولية أن المعالجة السريعة الناجعة التي تستدرك هذه المهددات وتبعد شبحها إن لم تأتِ اليوم، فقد تكون باهظة التكاليف غدًا، وربما تنزلق البلاد في هاوية يصعب انتشالها.
مع تضعضع هياكل الدولة السودانية وغياب كامل للحكومة التنفيذية منذ أكتوبر 2021، حاولت بعض المكونات السياسية السودانية الاستقواء بمنطق القوة، بل ونسجت تحالفات سياسية بين أحزاب سياسية مثل الحزب الشيوعي السوداني، وفصائل حاملة للسلاح كفصيلي عبد العزيز الحلو وعبد الواحد محمد نور.
عبد الله بونج!
المثقفون الفرنسيون والحرب على الجزائر.. السردية المهمشة
وفي ظل شارع ثوري ملتهب، لم يتوقف عن الغليان منذ أكتوبر الماضي، فإن الرياح قد تساعد بنشر ألسنة اللهب إذا توافر عود الثقاب المشعل للحريق – لا قدر الله – وحينها سيجد المجتمع الدولي نفسه يواجه المأزق ذاته الذي جعل فرنسا ملامة في الحرب الأهلية الرواندية.
من الواضح أن المجتمع الدولي، ممثلًا في الترويكا، والاتحاد الأوروبي، يدرك الآن أن الأزمة السياسية السودانية إن لم يتوافر لها مضادات الحريق، وتبدأ اليوم قبل الغد، مسار التسوية والانتقال لحكم مدني كامل، فإن البديل صراع جهوي وقبلي يجعل الحل الوحيد المتاح هو تفكيك الدولة السودانية لعدة دويلات وهو سيناريو يبدو الآن أقرب كثيرًا من أي وقت مضى.
إرم نيوز