عبدالناصر مسبل: افتراضيات الثورة (1)
قلنا إن تعريف نشاطات التمرد و العصيان يشير إلى علاقة بين هذه النشاطات والثورة وفي نفس الوقت يفرق بينهما بوضوح تام. إذن ما هي الثورة؟؟..
الثورة نشاطات تراكمية تختلف عن التمرد والعصيان،الإنقلاب العسكري، الإستيلاء عسكريا على السلطة أو التدخل الخارجي لرفض نظام سياسي محدد. تختلف الثورة عن هذه الأعمال بمؤشرات كثيرة أوضحها و أهمها هو تمتعها بحجم كبير من التأييد الشعبي المنظم و ليس من الضرورة أن يكون هذا التأييد منذ البداية هو تأييد أغلبية. تهدف الثورة إلى إعادة توزيع السلطة و الثروة عن طريق تغيير سياسي،إقتصادي،إجتماعي و ثقافي. العناصر الأساسية للثورة هي: رفضها لشرعية نظام قائم و إنكارها المدروس المبرر الواضح لحق هذا النظام في فرض تشريعاته و نظمه. في معظم كتابات المنظرين و الباحثين نجد أن تكتيك الثورة يقترن بنشاطات التمرد والعصيان
( التخريب،التفجيرات، إختطاف رهائن، إغتيالات،نهب ممتلكات..إلخ). من الملاحظ أن ثورة الشباب السوداني المشتعلة الآن قد برعت بسلميتها في ترسيخ نهج جديد وفريد للتكتيكات الثورية.
أسباب الثورة تقترن ببعض الإفتراضات التي ربما تكون صحيحة في مجملها وقد لا تكون كذلك إذا إستندت على إفتراض واحد.أحاول هنا الحديث بإيجاز عن هذه الإفتراضات مع قليل من التركيز على إفتراض إمكانية الحسم العسكري للثورة.
أول إفتراض هو عدم العدالة. يشير الفيلسوف أرسطو إلى أن الجماهير تثور بسبب فكرة عدم العدالة في معاملتها. لكن العدالة قد ينظر إليها من زاوية معاملة الأكفاء بالتساوي و معاملة غير الأكفاء بصورة تتفق ونسبة عدم التكافؤ بينهم. العدل لا يتطلب ان يتلقى كل الناس نفس الأكل، نفس الشراب، نفس اللباس، نفس السكن و نفس التعليم. تفاوت القدرات بين الأفراد يبرر الإمتيازات وفقا للعبئ الذي يتحمله كل فرد بمساهمته في محصلة الخير العام. الطبيب مثلا يتحمل عبئا أكبر مما تتحمله كوادر أخرى في الحقل الطبي و حتى على مستوى الأطباء نجد هنالك تفاوت في تحمل العبئ بين طبيب و طبيب آخر. هكذا يكون الحال في المهن القانونية أو الهندسية أو العسكرية…إلخ. رغم ذلك هنالك حدود إنسانية يجب ألا تتخطاها هذه الإمتيازات حتى لا تصبح الإمتيازات مدخلا للإستغلال أو الإستعباد الوظيفي. عدم العدل ليس ظاهرة طبيعية، إنه تصور إنساني يتوقف على القيم الحاكمة لمجتمع من المجتمعات. هنالك بعض الناس يؤمنون بأن الله خلق البعض ليكونوا فقراء،جو عى و أرقاء و آخرين خلقوا ليكونوا أغنياء، متخمين من الشبع و أسياد. هؤلاء لا ينتظر منهم أن يثورو وقد فهم بعضهم الدين بصورة خاطئة ووظفوه سياسيا للوصول إلى هذه النتيجة.
ثاني الإفتراضات تبناه بعض علماء الإجتماع نتيجة لبحوث قادتهم إلى نتيجة تفيد بأن سبب الثورة هو الإحباط. يقولون: العالم يواجه ظروفا ذات طبيعة غير مستقرة صعودا و هبوطا، منحنيات متداخلة من التطلعات و الجهود الناهضة، قياسات متضاربة لعدم القناعة الفردية، الإفتقار إلى معايير إجتماعية و أخلاقية قياسية بالإضافة إلى نظريات مفيدة و أخرى غامضة عن التماسك و الترابط أو التفكك و الإنهيار الإجتماعي. الإحباط هو أحد العوامل الثابتة في كل حركات الإحتجاج، سواءا كانت ذات اسباب سياسية او إجتماعية. الإحباط ببساطة هو عدم قدرة المرء على القيام بعمل هو في أمس الحاجة للقيام به بسبب ظروف خارجة عن سيطرته. قد يكون المرء مقتنعا سلفا بأن أي شخص ثائر هو بالضرورة محبط ولكن هذا لا يشكل فرقا واضحا بين الشخص الثائر و الآخرين فهنالك محبطون لا يثورون. بالإضافة إلى أن هذه الفكرة تعتبر تبسيط مخل يخفي روح التضحية والفدائية كما شهدناها هذه الفترات السابقة في شوارع السودان، هذه الروح التي تميز المحبط الثائر عن المحبط المستكين المستسلم.
ثالث الإفتراضات هو أن الأسباب دائما تكون هي الحرمان والفقر والجوع. التاريخ الإنساني لا يؤيد هذه الفرضية بل يقدم إستثناءات بارزة. خارجيا كانت لكوبا في عام 1958 طبقة وسطى كبيرة وكانت تتمتع بأعلى مستوى دخل شخصي في أميريكا اللاتينية. كان ينبغي أن تكون آخر المرشحين لقيام ثورة فيها إذا كان الفقر والجوع هو السبب. يستوطن الفقر معظم الهند ورغم ذلك لم تشهد ثورة منذ إستقلالها. يتفق المؤرخون على أن الثورة الأمريكية لم تكن بسبب حاجات مادية. داخليا و بالرغم من أن الأوضاع المعيشية الآن لا تقارن بأي معيار مع الأوضاع في أكتوبر 1964 و مارس/ إبريل 1985، من حيث الفقر والجوع والحرمان و سوء الأحوال الصحية وبؤس الحياة، رغم ذلك نجد أن الثورة التي تتصاعد بتفاعلاتها الآن تتصدرها طلائع الوعي من الأطباء، أساتذة الجامعات، المهندسون، المحامون وغيرهم من شرائح مهنية في أوضاع معيشية مقبولة. اضف إلى هؤلاء بعض أبناء و بنات مسؤولين في النظام و الذين قطعا لم ينضموا لصفوف الثوار بسبب الجوع او الفقر او الحرمان. والحديث بقيه. تحياتي.
صحيفة الانتباهة