صبري محمد علي (العيكورة) يكتب: (دعوها فإنها مُنتنة)
وحتى أكون دقيقاً في التعبير عزيزي القارئ فدعنى أعيد العنوان بصيغة أخرى من الذى يدفع بالسودانيين أن لا يقرأوا التاريخ والجغرافيا ! ومن يقف خلف إثارة النعرات الطائفية والقبلية عطفاً على أحداث إقليم النيل الأزرق أو ما ظل يتكرر باقليم دارفور من حين الى آخر . فالصراع الأخطر في تاريخ البشرية هو صراع حول الأرض والهوية فإما هاتين او ان يفنى الانسان . ! و بين ظهرانينا قرآن يتلى الى يوم الدين (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) الآية
فالغاية الاسمى هى التعارف والميزان الحق هو تقوى الله سبحانه وتعالى فأين العنصرية واللون والسحنة واللسان هنا ؟ سؤال اوجهه لمن ينكرون القبيلة والقبلية . فالمنهى عنه هو عصبية الجاهلية الأولى التي لا تعلى قيمة لدين و لا عقل ولعل لدينا بالسودان شيء من (عجب النفس) ضمن أغانى الحماس
(نحنا ونحنا) وغيرها من بقايا جاهلية متوارثة بذات معاني جاهلية ما قبل الاسلام
كقول شاعرهم : ــ
إذا بلغ الفطام لنا صبيٌ تخر له الجبابرة ساجدينا
ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطينا
أو كالذى قال مفاخراً بقومه :ــــ
تجري الرياحُ كما تجري سفينتنا
نحن الرياحُ ونحنُ البحرُ والسُفُن
فإذا أسقطنا هذا الواقع على الاحداث الأخيرة باقليم النيل الازرق و اغلقنا أذاننا عن سماع جمل الاتهام والاتهام المتبادل وقرأنا بيان (الحركة الشعبية) بلا تأويل و بلا شكوك لقرأنا أن قبيلة (الهوسا) المتعايشة مع قبائل (الهمج) او الفونج قد طالبت حكومة الولاية بأن تكون لها نظارة او كيان ادارى منفصل حقيقة لا أعلم المسمى تحديداً ولكن المحصلة هي زعامة منفصلة عن زعامة الفونج والمعروفة تاريخياً لديهم بـ (المكوكية) ويبدو وحسب البيان ان الحكومة طالبت (الهوسا) بالتريث لحين تشكيل أجهزة الحكم الولائية والاتحادية حيث ستكون وزارة الحكم المحلي هي الجهة المعنية بمثل هذه المهام. وبعيداً عن أي إشارة للاتهامات المتبادلة ومن أشعل شرارة الاقتتال واسبابه وبغض النظر عن التسليم او النفى بصحة بيان الحركة الشعبية من عدمه فتعالوا نقف على مسافة واحدة من الجميع ونقرأ تاريخنا .
نحن شعب قبلي رضينا ام ابينا يتمترس بالأرض المتوارثة باستثناء من هاجروا للمدن بغرض السكن او التجارة والتعليم وذابوا في مجتمع المدينة . الإدارة الاهلية كانت و الى زمن قريب الى ما قبل حكم نميري هي عبارة عن دويلات بلا حدود وبلا جيوش يسودها الالفة والكرم والاستجارة وابرز ذلك التعايش السلمي الذى كان سائداً بين المسيرية ودينكا (نقوك) والصلات الطيبة التى كانت تجمع بين بابو نمر و دينق مجوك وكذلك بالشرق نظارات البجا والقبائل الأخرى وبارض البطانة الشكرية والبطاحين وفى شندى مك الجعليين ويليهم مروي و الباوقة ونوري الشايقية والدناقلة ودنقلا والمحس وحلفا اقصى الشمال اى ان هناك متلازمة بين المكان والقبيلة فما ذكرت الفاشر مثلاً الا وذكر السلطان (علي دينار) وكذلك ببقية الامكنة والحواكير والقبائل التي كانت تتساكن كردفان ودارفور والنيل الأبيض والجزيرة وغيرها .
إذاً ما اريد أن أخلص اليه هو أن أي نسيج قبلي مرتبط ببقعة جغرافية معينة وإن هاجر عنها ولكن تظل هى الجذور التي تعتبر من مقدسات السكان الأصليين .
جميع الحكومات كانت تبقى على هذه الحقيقة حتى جاء نميري والغى الإدارات الاهلية وانشأ وزارة الحكم المحلي وجعل على رأسها الدكتور جعفر محمد علي بخيت في محاولة منه لانهاء إرث القبلية في السودان حتى لا تنازعه الحكم ولكنه فشل .
لذا يجب ان تبتعد الحكومة عن فرض اى واقع اجتماعى يمس هذا الوضع المعقد الا اللهم داخل المدن الكبرى حيث تذوب هذه الفوارق تلقائياً .
أفهم جداً أن أقتنى مزرعة في منطقة ما او اذهب كمستثمر او تاجر أو صنايعي مثلاً وأستقر باسرتي بها ولكن لا أستوعب أن أنشئ إدارة داخل أرض قبيلة اخرى لها نظام إدارتها المتوارث
فهل يسمح المسيرية مثلاً للجعليين بإنشاء (مكوكية) ببابنوسة او المجلد ؟ نعم قد يكون خطأ بمنظار آخر ولكن هذا واقعنا وعلينا التعايش معه !
لذا يجب ان نسلم ان واقعنا القبلي معقد جداً ومتجذر ولا يسهل اقتلاعه ولا يمكن اقناع القبائل بالتخلي عن هذا النمط الحياتى القابل للانفجار والاستقواء والفزع في اى وقت إن لم نبتعد عن هذه النقاط الحساسة التي يرفضها عرفنا القبلي (على الأقل حالياً) .
كما يجب على الحكومة ان تقوم بواجبها بحزم ضد ما افرزته سنوات (قحت) من دعاة الفتنة والتغيير (الديموغرافي) تحت دعاوى الحق العام والوطن للجميع ومدنية الدولة .
قبل ما أنسى : ـــ
مقولة الوطن للجميع لا تعني التعدي على حقوق وارث الاخرين .. ونعم لبقاء قداسة القبيلة والجغرافية للتعارف والمصاهرة فهي صمام الأمان وقناة التعايش السلمي الذى سيحفظ امن هذا الوطن بإذن الله
(دعوها فإنها مُنتنة) .
صحيفة الانتباهة