مقالات متنوعة

عادل عسوم يكتب: الهوية السودانية كما تريدها بروف فدوى علي طه

عادل عسوم

قبل قليل قرأت تعليقا في الفيسبوك على منقول من صفحة مديرة جامعة الخرطوم الدكتورة فدوى عبد الرحمن علي طه تعيب وتنقم فيه على شاعر اغنية (أنا سوداني أنا)، بيت الشعر القائل:
دوحة العرب أصلها كرم
وإلى العرب تنسب الفطن.
نقمة المديرة هذه جعلتني أعود إلى الوراء إلى العشرينيات بحثا عن اجتهادات وطروحات تؤسس لهوية سودانية، وتؤطّر لحراك ثقافي وأدبي ثر -حينها- ليتداخل فيه روح الانتماء العروبي والأفريقي معا…
بدأت تلك الأجتهادات مع نشأة جمعية اللواء الأبيض، وترجمها لاحقا الأديب حمزة الملك طمبل في كتابه (الأدب السوداني وما يجب أن يكون عليه) في عام 1928، وذلك عندما طالبه الشاعر محمد سعيد العباسي بأن لايقتصر سمت شعره على بيئة وخصائص الشعر العربي فقط، بل عليه الأهتمام كذلك بالبيئة السودانية ليعكسها في أشعاره…
وفي بداية الثلاثينات صدرت مجلة الفجر التي كان من كتابها البارزين كل من محمد أحمد المحجوب ومعاوية نور وعرفات محمد عبدالله حيث دعا جميعهم إلى أدب قومي سوداني يعكس البعدين العروبي والأفريقي معا…
وترجم الشاعر محمد المهدي المجذوب دعوة سابقيه عندما أدخل انسان الجنوب السوداني في قصائده التي عرفت ب(الجنوبيات) حيث يقول في بيت منها:
وعندي من الزنج أعراق معاندة وإن تشدق في أشعاري العرب.
وأتى من بعد ذلك أدباء وشعراء آخرون ساروا على ذات النهج -أي أيلاج الطابع الأفريقي- في رفدهم النثري والشعري، ومن أولئك جمال محمد أحمد ومحمد عمر بشير ويوسف عيدابي ويوسف فضل ومحمد أبراهيم بشير وحامد حريز وجيلي عبدالرحمن والفيتوري وتاج السر الحسن ومحي الدين فارس ومحمد عثمان كجراي وغيرهم كثير…
ومن بعد كل هؤلاء أتي مجموعة من الشعراء أعلنوا استلهامهم لمقولة للأديب الشاعر والمهندس والوزير محمد أحمد المحجوب رحمه الله وردت في مقالة له في مجلة الفجر الصادرة في 16/6/1935م حيث قال:
(نحن إن نادينا بقيام الأدب القومي للطبيعة المحلية، فإنما ندعو إلى خلق شعب بكيانه يعبّر عن مرئياته من سماء زرقاء أو ملبدة بالغيوم، ومن غابات وصحراوات قاحلة ومروج خضراء، ومن إيمان بالكجور والسحر إلى إيمان بالله وحده لا شريك له).
فأسسوا ما أسموه ب(مدرسة الغابة والصحراء).
عودة إلى الأسماء المؤسسة لهذه المدرسة التي تسعى إلى هوية ثقافية cultural identity يلحظ المرء غلبة الشيوعيين فيها، وهؤلاء افشلوا هذه المدرسة نتاج تمترس غير مبرر ومسعى لاقصاء العروبية تمام وترجيح الانتماء الافريقي، ومن المضحك أن الشيوعيين خلال الاستقلال كانوا من المطالبين بالبقاء تحت التاج المصري بعكس ماسعى إليه اسماعيل الازهري الذي فاجأ المجلس باعلان الاستقلال الكامل من دولتي الاحتلال انجلترا ومصر، ولكن كان من بين شخوص اصحاب مدرسة الغابة والصحراء عدد من الأصوات غير المؤدلجة مثل محمد عبدالحي الذي لخص صراع البدايات وقال: “جماع الغابة والصحراء لم يكن ودياً في البداية، ولكن زحام هذا اللقاء الشرس بين فرسان الخيول العربية وبين سبايا الغاب الإفريقي نحتنا وجوهنا … الأفكار لا تجدي … الاعتراف، عودة إلى الجذور الأصلية المنسية، ضغوط، يتم لقاؤنا بشمس الحقيقة”.
فالثقافة التي ننشدها يجب أن تكون ثقافة هجينة مثلنا، “فهي إفريقية أصلاً ولكنها عربية الملامح”.)
ونتيحة لتمترس الشيوعيين للأسف حادت المدرسة عن طريق كان يمكنه ان يوجد لاهل السودان جوديا ترسو فيه سفينتهم، ولعلي اعزو ذلك لسببين:
الأول: اعتمار الشيوعيين لمصرور وجبلة الرفض (الذي يصل حد المرض) للاسلام كاطار ومرجعية يتأسس على هداها مجتمع سوداني كانت نسبة المسلمين فيه تقارب الثمانين بالمائة بناء على تقييم الكنيسة، ومافتئ رفضهم له قائما حتى بعد انفصال الجنوب وتصبح نسبة المسلمين في السودان أكثر من 98%!
الثاني: ال(تعامي) عن ختام سياق محمد أحمد المحجوب الذي تأسست على هداه هذه المدرسة، وسأعيد ايراد السباق ليتبين القاريء:
كتب المحجوب رحمه الله:
(نحن إن نادينا بقيام الأدب القومي للطبيعة المحلية، فإنما ندعو إلى خلق شعب بكيانه يعبّر عن مرئياته من سماء زرقاء أو ملبدة بالغيوم، ومن غابات وصحراوات قاحلة ومروج خضراء، ومن إيمان بالكجور والسحر إلى إيمان بالله وحده لا شريك له).
معلوم عن المحجوب عدم انتمائه إلى أي واجهة من واجهات الاسلاميين، لكن فهمه الصحيح للاسلام وقناعته الراسخة بدينه، ثم حبه للخير للذين يؤمنون بالكجور والسحر -على قلة عددهم- دفعه إلى جعل الايمان ايمانا بالله وحده لاشريك له.
وهنا ينبري سؤال:
هل كانت اللغة العربية يوما حجر عثرة أو مشكلة تنأى بأهل السودان عن اعتمار هوية تمازج مابين العروبية والافريقانية؟!
لقد كانت العربية ممثلة في عربي جوبا لغة التواصل والتخاطب لكل قبائل الجنوب قبل انفصاله، ولعلها لم تزل كذلك حتى من بعد الانفصال، ولقد عشت طفولتي في جنوب السودان ثم زرته قبل الانفصال بعامين فتبين لي بأن عربي جوبا كان يسير بخطى حثيثة صاعدا إلى ميس الدارجة السودانية والعربية الفصحى، ولعل السبب في ذلك قدرة تنفرد بها اللغة العربية عن سواها من اللغات، ويمكن للمرء تبين ذلك في مآلات التحدث في الجزائر، ومن قبل لدى الاقباط في مصر!. ويمكن مقارنة العربية في ذلك بالانجليزية التي تباينت في كل من انجلترا وامريكا ووصل الأمر بأن تختلف حتى المعاجم في كل دولة للمباينة والاختلاف المستمر!.
ولم يكن أمر التراضي بالعربية كلغة للتواصل قاصرا على قبائل الجنوب قبل انفصالها، بل شمل كل قبائل السودان ذات اللغات غير العربية، ولعل مما سهل أمر التراضي بالعربية بين كل هذه القبائل أن اللغات في السودان لغات غير مكتوبة، ثم إن غلبة الاسلام خاصة الآن بعد الانفصال يدفع كل المسلمين في السودان إلى الحرص على لغة دينهم الاسلام، وليس في ذلك بخس للغة أخرى او رطانة يعتمرها سوداني مسلم من اصول غير عربية، اذ ظل الحق في التعبير عن ثقافة وتراث القبائل لدينا متاحا منذ الأزل، ولم يخصم منه التواصل بالعربية البتة، فإن كان من حق القبائل السودانية ذات الأصول غير العربية الاعتداد بثقافتها وتراثها تمجيدا لها بالايقاعات والرقص والغناء الفولكلوري، مالذي يمنع ذوو الأصول العربية عن التغني بتراث لجذورهم وتراثهم فتستهجنه السيدة فدوى؟!
وهل ينقص ان غنى الآخرون من غير ذوي الأصول العربية لقيس وليلى واحتفوا بعنترة ابن شداد من مصرورهم؟!
وما الاشكال حتى ان غنى كابلي للجزائرية جميلة بوحيرد وقد غنى لنكروما؟!
وأليس من الأجحاف والغمط أن نلغي مشاعر شعراء البطانة، والبقارة، والشايقية، والرشايدة وغيرهم وهم يستصحبون ويستلهمون في أشعارهم ما يحسبونه ويحسونه تراثا لأجداد وجذور فيرفدونا بكل هذا الكم من الابداع شعرا ونثرا لنثبّطهم ونبخس أشياءهم بما يشي بنكران لأصلهم العربي كما تود البروفيسور فدوى علي طه الناقمة على بيت الشعر الممجد للعرب؟!
لاحظوا حتى لكتابات الناشئة في الوسائط والمسعى لاستخدام لغة دارجة مبتذلة مختلقة بكلمات من لغة (الراندوق)، الذي يتابع ويسبر غور ذلك يجد من خلفه منابر وجمعيات كان يتم الصرف عليها لتحفيز الشباب للنأي عن الفصحى، وتم رصد الجوائز المالية والعينية لمقالات واحتفاءات بصغار سن وشباب!، بل لاحظوا للغة الهتاف التي كان ولم يزل يتم تلقينها لصغار السن خلال التظاهرات!…
إذن المسعى هو نخر الفصحى تماهيا مع حربهم الدين…
من الواجب ومن تمام الوعي أن نحترم اصول بعضنا البعض ليكون ذلك حافزا ودافعا لكل قبيلة للأبداع استلهاما لتراثها الخاص بها طالما تراضينا بالاسلام دينا وبالعربية لغة، نفعل ذلك دون استعلاء او ازجاء ولا اقصاء والغاء للآخر، ولعمري إننا من بعد ذلك ان اعتمرنا (آفروعربية) أو(سودانوية) أو مدرسة لغابة وصحراء فلن يبعض ذلك من توحدنا، ولن يمزق مزعة واحدة من نسيجنا الاجتماعي، ولعلي أقول (يقينا) بأن الذي نعايشه اليوم من عدم قبول بالاخر واقصاء ليس السبب فيه تفاضل في الأعراق بقدر ما هو خلخلة لمفاهيم ديننا وبلبلة للقناعات والايمان نتاج سيادة الخطاب الشيوعي واليساري العلماني بدءا من الإعلان عن سودان جديد يعتمر العلمانية ويرفض دين غالب أهل السودان وان ادى ذلك إلى (تفكيكه طوبة طوبة)!، وكذلك سيادة خطاب فصل الدين عن الدولة، وكذلك التنادي بحرية لاكابح لها ولا اطار!
عندما دفع الشيوعيون برفيقهم رشيد سعيد ليختار لنفسه وظيفة وكيل (أول) وزراة الثقافة والاعلام؛ كان يحرص كثيرا على التأثير السالب من خلال منافذ الإعلام وواجهاته لايجاد تلك الخلخلة، ولخلق التغبيش على قناعات الاسلام في وجدان الشباب طمسا لوضاءات الايمان في العقول والوجدان، وليس ببعيد منه من اتوا به وزيرا للتربية والتعليم الشيوعي محمد الأمين الذي طالب بنات ونساء السودان بالتصالح مع اجسادهن!، انها ثقافة الشيوعيين واليسار والعلمانيين التي سيلقون الله عليها، وقد كتب عنها كتابهم ومفكريهم من قبل، ومن اولئك الدكتور منصور خالد الذي قال:
الناس إذن نتاج لصدف الجغرافيا والتاريخ شأن شعوب كثيرة تخلقت نتيجة لمثل هذه الصدف (أمريكا، جنوب أفريقيا، بيرو، البرازيل، كندا)، هذه الشعوب المتعددة المنابت والمتنوعة الثقافات أدركت بحسها الواعي بأن الرابطة الوثقى التي توحد بين أهليها هي الإحساس بالانتماء لوطن واحد (المواطنة)، والولاء لدستور واحد يؤطر هذه المواطنة. فالخيار أمام مثل هذه المجموعات هو أما الانتماء للوطن انتماءا مباشرا عن طريق المواطنة ودستورها، أو الانتماء له انتماءا غير مباشر عن طريق هوُياتها الصغرى، دينية كانت أم عرقية أو ثقافية. الانتماء الأخير وصفة لا تنجم منها إلا الكارثة لأن التحصن بالهوُيات الصغرى يفضي، بالضرورة، إلى إقصاء الآخر الذي لا ينتمي لتلك الهوُية، وإقصاء الآخر يقود بالضرورة أيضاً إلى تقوقعه في هويته المحلية المحدودة، وربما إلى إنكار كل ما هو مشرق في ثقافة من أقصاه وسعى للهيمنة عليه. فالفريق المقصى لن يرى – بمنطق رد الفعل – في إبداعات الآخر أكثر من إنها وجهة من وجوه الهيمنة والإلغاء.كما تنطلق السوداناوية بالاعتراف بواقع الأديان السماوية والتقليدية الأفريقية السودانية وأنه يجب التعامل معها كواقع حياة وأن يتم التعامل مع معتنقيها كأقوام أصيلة في البلاد وليس كأقليات لا يعتد بها ولا بدياناتها.
أنتهى المقتطف من كلام الدكتور منصور خالد.
قد يعذر الرجل لكون البلاد التي ذكرها تعج بالأديان، لكن ماذا يقول رشيد سعيد والوزير محمد الأمين والمديرة فدوى وقد أصبحت نسبة غير المسلمين المسلمين في السودان من بعد الانفصال أقل من 2%؟!
الله المستعان.

صحيفة الانتباهة