البرهان وحميدتي… رهانات الزمن الضائع
التصريحات التي أدلى بها محمد حمدان دقلو “حميدتي” لقناة “بي بي سي” قبل أيام حول فشل أهداف انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أتت كأقوى الاعترافات الصريحة حيال ما حدث من جريمة سياسية في ذلك اليوم. وفيما تبدو تصريحات “حميدتي” التي دندن حولها بعبارات ماكرة قد تفسر على أنها انسحاب من السلطة، لكنها في جوهرها تضمر تماهياً مع مضمون بيان قائد الجيش عبدالفتاح البرهان في 4 يوليو (تموز) الماضي، الذي قال كلاماً مشابهاً لما قاله حميدتي للـ “بي بي سي”.
يمكن القول إن تصريحات حميدتي إذا ما تمت قراءاتها مع البيان الذي أصدره قبل أيام، وجاءت فيه اعترافات مشابهة لاعترافات البرهان واستعداد لتقديم تنازلات شملت إمكان ضم “قوات الدعم السريع” التي يترأسها إلى الجيش السوداني، وانطوت على تغيير ما في موقفه نتيجة لضغوط أميركية أصبحت آثارها اليوم ظاهرة في ما يفعله المكون العسكري. فقد رأينا قبل أكثر من شهر، وعقب اللقاء الشهير لقائد الانقلاب الجنرال عبدالفتاح البرهان مع قناة “الحرة” الأميركية، ما جاء من أخبار بعد ذلك اللقاء عن تراجع السودان بشأن إقامة قاعدة عسكرية للروس في مدينة بورتسودان على ساحل البحر الأحمر، هذا يعني أن ثمة اتجاهاً لتصوير الجيش و”الدعم السريع” كما لو أنهما يعدان بالتنازل عن السلطة، ولكن في الوقت ذاته لا تعكس لغة الخطاب التي تضمنها بيانا البرهان وحميدتي فحوى تفيد بدلالة قاطعة على نية حقيقية للتخلي عن السلطة. ذلك أن التخلي عن السلطة من قبل المكون العسكري يحتاج إلى قرارات وليس إلى بيانات، وكما تطرقنا في مقالة سابقة حللنا فيها بيان البرهان في 4 يوليو (تموز)، تأتي تصريحات “حميدتي” المتأخرة لتضع النقاط على الحروف بطريقة أكثر صراحة في الإقرار بأن الانقلاب فشل في تحقيق أهدافه، لكن الغريب في كل ذلك أنه يتم تصوير فشل الانقلاب من طرف العسكر كما لو أنه وقع وليس لهم فيه يد، وكأن الانقلاب ليس هو السبب في الفشل، ناهيك عن الاعتراف بتبعات المسؤولية والاستعداد لدفع الثمن. نخشى القول إن أهم ما انطوى عليه هذا النوع من الاعتراف المجاني والنأي بالنفس عن دفع الثمن كاستحقاق واجب ودال على تحمل المسؤولية، مع إرادة لتوريط المدنيين، كالذي بدا ظاهراً في كل ما قاله كل من البرهان وحميدتي، في هذه التجربة الانقلابية الفاشلة، نقول إننا نخشى أن يكون ذلك تعبيراً متجدداً لطريقة درجت عليها ثقافة “فقه التحلل” و”عفا الله عما سلف” في عهد نظام البشير، إذ كان يبرر بها الإسلاميون خطاياهم التي ليست هي سوى انعكاس رديء لوهم الانفصال عن الواقع، وهي طريقة لن يكون نتاجها إلا تراكم في الأخطاء، سيؤدي لا محالة إلى طريق مسدود.
يبرر العسكر اليوم خوفهم من تسليم السلطة للمدنيين فوراً بأن المدنيين ليسوا على قلب رجل واحد، وأنهم (أي المدنيين) ربما يعيدون إنتاج التشاكس الحزبي على المناصب السياسية مع غياب أي إحساس بمسؤولية الخطر المحدق على الدولة السودانية. وفي هذه المساحة الغامضة من الخوف والرغبة التي يبدونها حيال الحذر من تسليم السلطة للمدنيين لا ينتبهون أصلاً إلى أنهم، فيما يحاولون باستمرار نسيان لحظتهم الراهنة كلما امتد بهم الزمن في السلطة منذ الانقلاب كانوا الأكثر خطراً على مصير الوطن مع كل إشراقة شمس يوم جديد من حكمهم العقيم.
ذلك أن هناك خوفاً يصنعه العسكر ويتم تسويقه في أجندتهم حتى يصدقوه هم أنفسهم الذين صنعوه، فيما الحقيقة مثلاً إذا أجرينا أية مراجعة للفترة الانتقالية التي تم إجهاضها على يد العسكر منذ 25 أكتوبر الماضي، سنجد أن العسكر كانوا هم الذين يحركون عمليات شد الأطراف بين الشرق والغرب في محاولات مستميتة لكي يلجأ الشعب السوداني إلى الركون إليهم والتسليم بحكمهم طلباً للاستقرار والكف عن مطالبه المشروعة في الحكم المدني الديمقراطي. وهنا سيبدو لنا جلياً أن ما يتم تصويره كقتال بين القبائل في شرق السودان مثلاً أثناء إدارة الفتنة، هو في الحقيقة صناعة أمنية مدبرة لقطع الطريق على انتصار ثورة 19 ديسمبر 2018 عبر ضرب للاستقرار تتقاطع فيه أجندات إقليمية ودولية ومحلية في شرق السودان.
كما أن العسكر يدركون تماماً أن تجربة المدنيين في الحكم حتى وإن كانت لا تخلو من أخطاء، لكنها ما دامت في ظل الحريات فإن رقابة الشعب من ناحية، ومساعدة المجتمع الدولي الحريص على رؤية سودان حر ديمقراطي من ناحية ثانية، ستكون أكثر من كافية لتصحيح المسار، ثم إنه ما دام العسكر أنفسهم في أية لحظة قادرين بقوة السلاح على التدخل متى ما شعروا بانفراط الأمر ووشك خروجه عن السيطرة، فما الذي يمنعهم من تسليم السلطة للمدنيين وهم يرون رأي العين بعد انقلابهم في 25 أكتوبر الماضي أن الأوضاع قبل انقلابهم كانت أفضل بكثير من بعده على الرغم من أنه تم القيام به بحجة تصحيح الأوضاع وإصلاحها خوفاً من ضياع البلد جراء تشاكس المدنيين. إن أي مقارنة تختبر قراءة هذه النتيجة التي أدى إليها انقلاب العسكر (وهي نتيجة تذكر بمآل البلد بعد 30 عاماً من انقلاب الجنرال عمر البشير في عام 1989) تدل بوضوح أن مسار المرحلة الانتقالية المجهضة كان مشدوداً بما ظل يرسمه العسكر ويخططون له من توترات شد الأطراف في شرق السودان وغربه، متوسلين بذلك ما لا يمكن إدراكه أبداً بالطريقة ذاتها التي يجربونها مرات عدة ثم يتوقعون نتائج مختلفة، فإذا اتضح للعسكر اليوم أن الأوضاع التي صورت لهم عبر التضليل والتقارير الأمنية الخادعة ما توهموا معه أن أية حركة انقلابية من طرفهم ستكون مبعث ارتياح من الشعب فقد عرفوا اليوم حق اليقين أن الشعب السوداني لا يرغب بديلاً عن الحكم المدني الديمقراطي وسيناضل من أجل ذلك ويضحي، بل ما وضح للعسكر قبيل انقلابهم بأربعة أيام حين تظاهر الشعب بالملايين في 21 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي كان أكثر من كافٍ للخروج بحكم عن اتجاهات الشعب السوداني وميوله المؤكدة نحو الحكم المدني. واليوم فيما يجمجم العسكر كحال من في فمه ماء حيال الاعتراف بالحقيقة، سيدركون أن كل يوم من أيامهم الباقية في السلطة هو يوم عسير على السودانيين، وأنه ليس هناك من حد يتوهمونه في ظل تسارع الانهيارات التي تضرب البلد بفعل أوهامهم التي يزايدون بها على خيارات الشعب.
هناك أكثر من صيغة للتوافق بين المدنيين متى ما اتخذ العسكر قرارات بالتخلي عن الحكم، وسيساعد المجتمع الدولي المدنيين في وضع يتم فيه تعدل دستوري جديد كما تم الأمر للمرة الأولى في اتفاق 17 أغسطس (آب) 2019.
وإذ يبدو اليوم أن مأزق العسكر ماثلاً أمام واقع الفشل المرير الذي ترتب عن كارثة الانقلاب، فهذا لا يعني عدم توقع إشكالات قادمة في حكم المدنيين (حال تسليم العسكر الحكم للمدنيين)، ففي كل ممارسة للحكم ثمة تجريب هو محصلة قرارات جماعية في مسائل الشأن العام ودواوين الحكومة، لكن الذين يريدون صواباً سياسياً (كما يتوهم ذلك خيال العسكريين الانتظامي) بلا أخطاء هم “طهوريون” لن يدركوا أبداً أن ناموس السياسة في الأزمنة الحديثة، سواء من حيث قيامه على منطق المنفعة الجماعية العامة كفن لإدارة ممكنات الحياة اليومية ومنافعها، أو من حيث التناقضات الثانوية التي تعرض لممارسات العمل السياسي.
على أن تعريف “فن الممكن” السياسي هذا قد يستخدمه بعض الانتهازيين في تعريفات فضفاضة وفوضوية من أجل تزييف الحقائق السياسية الصلبة والقواعد التي تحكم منطقها، وهنا يمكن القول إنه: ما لم يتم تحديد سقف جماعي متفق عليه لمصالح الشعب السياسية الملموسة بحد أدنى كمعيار تكويني موحد لخطاب الأحزاب المدنية في التفافها حول جبهة جمهورية موحدة تضع تلك المصالح الصلبة للشعب نصب عينيها (على الرغم من اختلاف تلك الأحزاب)، على ما سوى ذلك التحديد الذي يمسك معنى القيمة للحقوق السياسية للشعب، فإن غياب هذا التحديد الضروري لن يكون دالاً على ضياع معنى الجماعة الوطنية فحسب، بل سيكون دالاً على غياب معنى الدولة ذاتها، تلك الدولة التي انقسمت إلى قسمين وحدثت فيها حروب أهلية أنهكت مواطنيها، فيما تبقى بصيص أمل هو حراك هذه الثورة العظيمة الذي يقوده شباب لجان المقاومة وبقية القوى السياسية ممن آمنوا بروح الثورة وإمكان تحققها الذي لا بد منه وإن طال النضال وكثرت التضحيات.
محمد جميل احمد
إندبندنت عربية