شرق السودان والتدخلات الجيوستراتيجية
يوماً بعد يوم، وكما نبهنا إلى ذلك في أكثر من مقال، يبدو شرق السودان قد استوى مسرحاً للتدخلات الجيوسياسية، أو لقد حان أوان التدخل الجيوسياسي في مشكلاته الداخلية المصطنعة. فالدعوة التي قدمها الرئيس الإريتري أسياس أفورقي لأطراف وجهات من الإدارة الأهلية في شرق السودان، إلى جانب شخصيات سياسية من الشرق، لزيارة العاصمة الإريترية أسمرة بهدف عقد مؤتمر لحل مشكلة شرق السودان الأسبوع الماضي، تبدو أكثر من غريبة، إذا عرفنا أن الرئيس أفورقي كان قد أرسل 4 رسائل خلال أقل من شهرين إلى قائد الانقلاب عبدالفتاح البرهان، للتوسط في حل أزمة شرق السودان من دون أن يلقى تجاوباً من الأخير، الذي يخضع لضغوط أميركية مكثفة، كما أن مساعدة وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون القرن الأفريقي مولي في، أثناء زيارتها الخرطوم في يونيو (حزيران) الماضي، كانت قد أبلغت بوضوح لقادة الانقلاب، رفضها جهود إريتريا المستقلة لحل الأزمة بين الأفرقاء السودانيين. وأكدت عدم دعمها “لأي اجتماعات منفصلة قد تعقد مستقبلاً في أسمرة لحل الأزمة السودانية”، بحسب موقع “سودان تريبيون”.
وفيما بدا واضحاً لكل المراقبين للساحة الأمنية والأهلية في شرق السودان، لا سيما بعد انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول)، أن صناعة الفتنة التي استمرت فيه عبر الاقتتال الأهلي بين قبائل “البجا” وبعض القبائل الأخرى لسنوات ثلاث، إنما هي خطة اللجنة الأمنية في الخرطوم، إذ أراد المكون العسكري طوال الفترة الانتقالية “المغدورة” أن يشتغل على عمليات شد الأطراف بين الشرق والغرب، في محاولات مستميتة كي يلجأ الشعب السوداني إلى الركون للعسكر طلباً للاستقرار، بحيث يكف عن مطالبة المشروعة في الحكم المدني الديمقراطي. سيبدو جلياً كذلك أن ما يتم تصويره كقتال في شرق السودان بين القبائل أثناء إدارة الفتنة، هو في الحقيقة صناعة أمنية مدبرة لقطع الطريق على انتصار انتفاضة 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018، عبر ضرب للاستقرار تتقاطع فيه أجندات إقليمية ودولية ومحلية في شرق السودان.
صمت الحكومة
اليوم، يشهد شرق السودان استقراراً نسبياً على الرغم من أن جذور الأزمة ما زالت ماثلة، وما زالت هناك إمكانية لتجددها. فإن ما كان مستغرباً ومفاجئاً هو صمت الحكومة السودانية في البداية وعدم تعليقها على مؤتمر أسمرة، الذي تم الإعلان عنه في الصحف السودانية، مثل صحيفة “السوداني” الأسبوع الماضي، ليتفاجأ الجميع باعتراض سلطات الأمن السودانية على الحدود المغلقة بين إرتيريا والسودان، وإصرارها على إعادة وفد نظار الإدارات الأهلية في شرق السودان وبعض سياسيي شرق السودان الذين تم اختيارهم للمشاركة في المؤتمر المزعوم، ثم بعد يوم من إرجاع الوفد أعلنت الخارجية السودانية رفضها مشاركة الوفد في دولة إريتريا المجاورة من دون أن تفصح عن الأسباب، كما أعلنت الولايات المتحدة، لاحقاً، أيضاً رفضها لتدخل الرئيس الإريتري أسياس أفورقي في شؤون السودان الداخلية.
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: ما جدوى هذا التوقيت لمؤتمر أسمرة في ظل الهدوء النسبي الذي يعيشه شرق السودان اليوم، من ناحية؟ ولماذا جاءت الدعوة إلى انعقاد هذا المؤتمر بعد ثلاث سنوات من اندلاع فتنة الاقتتال الأهلي هناك؟ والأكثر غرابةً ما جدوى إصرار أسمرة على انعقاد هذا المؤتمر “حيث صرح أحد قادة تنسيقية شرق السودان، الأربعاء الـ10 أغسطس (آب)، لإحدى القنوات التلفزيونية، تجديد دعوتهم للمؤتمر مرةً أخرى من طرف أسمرة”، على الرغم من عدم تجاوب السودان معها في ذلك؟
يمكن القول إن هناك ضغوطاً تخضع لها أسمرة، في ظل الاتفاق المبدئي لقبول المفاوضات بين “جبهة تحرير تيغراي” وحكومة أديس أبابا، وهي مفاوضات تم تحديد مكانها في دولة كينيا برعاية أميركية وإقليمية.
شروط تيغراي
وبطبيعة الحال أن بنود “جبهة تيغراي” الأساسية شروط قد يؤدي قبولها من طرف أديس أبابا إلى اندلاع حرب محتملة بين تيغراي وإريتريا، ولهذه الأسباب ترفض أسمرة الدخول كطرف في أي مفاوضات كهذه قد تتم فيها استجابة ما لتنفيذ بعض شروط تيغراي، مثل استعادة أراضي إقليم تيغراي قبل تاريخ 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 التي شملت مناطق: “بادمي” و”الحمرا” و”والغايت”، الأمر الذي سيعني بالضرورة اندلاع حرب مؤجلة بين تيغراي وإريتريا. ولهذا السبب ربما تريد أسمرة تأمين جبهتها الغربية مع السودان، التي فيها وجود مشترك لقبائل إريترية وسودانية بحسب تقاطع وجود تلك القبائل على الحدود، مثل الهدندوة – الحباب – بني عامر – الرشايدة، ولهذا السبب أيضاً، ربما كانت أسمرة حريصة على عقد مؤتمر تصالحي بين مكونات النزاع في شرق السودان، وهما مكونا (بني عامر والهدندوة) في السودان، حيث لكل من القبيلتين امتداد في إريتريا، في الوقت ذاته. بطبيعة الحال، موقف إريتريا الجذري من أي مفاوضات سلام بين تيغراي وأديس أبابا، يتصل من طرف آخر بتحالف إريتريا مع روسيا، التي (إذ صوتت إريتريا تأييداً للحرب الروسية على أوكرانيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى جانب كل من سوريا وكوريا الشمالية وبيلاروس)، الأمر الذي يعتبر خطاً أحمر بالنسبة للولايات المتحدة، لا سيما إذا عرفنا أن الدواعي القاهرة التي تضطر كل من كوريا الشمالية وسوريا وبيلاروس للاصطفاف مع الحرب الروسي غير متوفرة في أسباب موقف إريتريا في نظر الولايات المتحدة، هذا إلى جانب ملف البحر الأحمر الذي تعتبره الولايات المتحدة منطقة نفوذ استراتيجي لها ولحلفائها في الشرق الأوسط، مصر والخليج وإسرائيل، لا سيما بعد أن نجحت ضغوط أميركا على الجيش السوداني للتراجع عن السماح للروس بإنشاء قاعدة في البحر الأحمر.
لطالما رغب الروس أن تكون قاعدتهم البحرية العسكرية في السودان لأسباب جيوستراتيجية يتوفر عليها السودان، ولا تمتلكها إريتريا، كالوصول إلى منطقة البحيرات العظمى داخل أفريقيا عبر الملاحة في النيل، والحدود الدولية المتعددة التي تصل السودان بمناطق دول فيها نشاط مكثف للنفوذ الروسي مثل دولة أفريقيا الوسطى ومالي. ولهذا ربما يعكس اهتمام إريتريا بالوضع في شرق السودان علاقة ما لروسيا من وراء الكواليس (لا سيما مع قدرة الروس عادة على ممارسة النشاطات السرية من خلال شبكاتهم وشركاتهم الدولية) من ناحية، وتحرزاً من طرف أسمرة لحماية روسية في ضوء المحيط الجيوسياسي الذي تتحرك فيه الولايات المتحدة، ما سيجعل من إريتريا وحيدة في حال نجاح المفاوضات بين تيغراي وأديس أبابا، وما قد يترتب على ذلك النجاح من حرب محتملة بين تيغراي وأسمرة.
وعلى ضوء الضغوط الأميركية الهائلة التي يخضع لها كل من البرهان وحميدتي، وهي ضغوط ستكون أكثر شدةً (خصوصاً بعد نشر قناة CNN الأميركية تحقيقاً مطولاً عن تورط شركة “فاغنر” الروسية المشبوهة، في الاستثمار غير المشروع للذهب السوداني، لدعم الخزانة الروسية في مواجهة العقوبات التي فرضت على روسيا من الغرب) حيث لقي التقرير صدى كبيراً وردود فعل واسعة في وسائط التواصل الاجتماعي، إلى جانب تحركات واعتصامات بقرب مناطق التعدين من قبل منتفضي ولاية نهر النيل. لكل ذلك قد لا تبدو دعوة الرئيس الإريتري متصلة بسياق طبيعي، إذ لم تنشر أي تفاصيل عن طبيعة ذلك المؤتمر المزمع عقده في العاصمة الإريترية أسمرة بين رؤساء ونظار قبائل شرق السودان.
ذريعة إريتريا
ونظراً إلى لوجود القبلي على الحدود بين قبائل عدة من شرق السودان مثل (الهدندوة – البني عامر – الحباب – الرشايدة)، فإن التدخل الجيوسياسي في هذه الحالة قد تجعله دولة إريتريا ذريعة من أجل تبرير اهتمامها في شأن الأوضاع الأمنية في شرق السودان، احترازاً من التأثير في داخل حدودها.
لكن، بما أن شرق السودان منطقة جيوسياسية وتتداخل فيه الحدود الدولية للسودان مع 4 دول هي (إثيوبيا – إريتريا – مصر – السعودية عبر البحر) فإن قراءة أعمق قد تسقط ضوءاً في تفسير هذا الحراك، الذي ابتدره الرئيس الإريتري أسياسي أفورقي تحت دعوى حل مشكلة شرق السودان.
لقد كان واضحاً أثر الضغوط الأميركية الشديدة التي خضع لها الانقلابيون في الخرطوم، إلى الدرجة التي ظهر فيها قائد الانقلاب عبدالفتاح البرهان على إحدى القنوات التلفزيونية عبر حوار مطول معه، كان كافياً من حيثياته وإخراجه للإحالة إلى أنه ستكون هناك نتائج أخرى لهذا الإخراج التلفزيوني لحوار البرهان، وهو ما كشفت عنه الأخبار في وسائط الإعلام، بعد ذلك بأيام، بأن السودان تراجع عن إقامة القاعدة الروسية في البحر الأحمر التي كان قد تم الإعلان عنها من قبل، وذلك على خلفية الحرب الروسية – الأوكرانية، التي تقود فيها الولايات المتحدة المجتمع الدولي لإدانتها والاصطفاف مع أوكرانيا، الأمر الذي رأينا آثاره في الضغوط التي يتعرض لها نائب رئيس مجلس السيادة وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان حميدتي، عقاباً على زيارته لروسيا (التي تزامنت مع يوم الغزو 24 فبراير/ شباط، واستمرت ستة أيام). وما زال حميدتي من خلال الجهود التي يقوم بها من أجل استتباب الأمن في دارفور، وإعلانه للمرة الأولى دمج قواته في الجيش السوداني، والقبول بالتخلي عن استيلاء السلطة السياسية عبر القوة، كل تلك الضغوط هي التي يمكن أن تلقي لنا ضوءاً يفسر لنا سبب الفتور الصامت، الذي تعامل به قائد الانقلاب عبدالفتاح البرهان مع دعوات الرئيس أسياس أفورقي المتكررة لحل مشكلة شرق السودان (التي هي صناعة اللجنة الأمنية بقيادة البرهان ذاته).
وبحسب أحد المواقع على “فيسبوك”، فإن القيادي بتنسيقية شرق السودان مبارك النور ذكر الأربعاء 10 أغسطس الحالي، أنهم في التنسيقية قد تلقوا دعوة مجدداً من الرئيس الإريتري سياسي أفورقي لزيارة أسمرة، بعد الرفض الواضح الذي جاء على لسان وزير الخارجية السوداني المكلف علي الصادق، الذي صرح قبل أيام قائلاً “تلقينا أخطاراً من إريتريا للمشاركة في مؤتمر عن قضايا لشرق السودان في أسمرة، ولم نوافق على المشاركة”.
وفي تقديرنا أن الإصرار الغريب من أسمرة لعقد مؤتمر للقبائل السودانية داخل أراضيها في ظل رفض الحكومة السودانية، يعكس موقفاً محيراً وينبئ عما هو أكبر من مجرد مؤتمر صلح للقبائل في شرق السودان، في الوقت الذي هدأت فيه أحداث العنف في شرق السودان، وذلك ما ستكشف عنه الأيام المقبلة، لكن المهم في هذا الصدد أن رفض السودان الدعوة إلى أن يكون من طرف إريتريا نهاية للوضع، لأن السياق الذي اكتنف هذا المؤتمر المزعوم، والتوتر الذي حدث في ملابساته من إرجاع للوفد الأهلي والسياسي من على الحدود الإريترية، يعكس ما هو أكبر من ذلك.
وفيما يسود اعتقاد لدى البعض في المجتمع المحلي لشرق السودان، أن هدف إريتريا هو عقد صلح خاص بين الناظر ترك، رئيس المجلس الأعلى لنظارات “البجا”، وبين موسى محمد أحمد، رئيس أحد أجنحة حزب مؤتمر البجا، والذي كان مساعداً لعمر البشير حتى يوم سقوطه. وكان كل من ترك وموسى محمد أحمد قد حدث بينهما خلاف أدى إلى انشقاق في المجلس الأعلى لنظارات البجا (بعد أن عملا فيه معاً)، كشف عن أزمة المجلس الملتبسة ككيان غريب الهوية في العمل السياسي.
والجدير بالذكر أن موسى محمد أحمد، هو الذي وقع اتفاق أسمرة بين حكومة الجنرال عمر البشير وجبهة الشرق في أسمرة عام 2006، حيث إن اتفاقية أسمرة كانت برعاية كاملة من إريتريا.
ويبدو أن أجندة صناعة الصراع في شرق السودان قد فشلت من جانب خطة البرهان وحميدتي عبر اللجنة الأمنية في الخرطوم طوال السنوات الثلاث الماضية، من خلال علميات شد الأطراف، الأمر الذي يفسر لنا إعلان كل من البرهان وحميدتي انسحابهما من العمل السياسي، وهوما انعكس سلباً وأدى إلى انقسام المجلس الأعلى لنظارات البجا الذي خطط له حميدتي، ونجح في ذلك حتى الآن.
محمد جميل احمد
إندبندنت عربية