مقالات متنوعة

محمد محمد خير يكتب: تورنتو مدينة لا تخرج من بيتها


للمدن طباع كما البشر، ولها خصوصية مثل الناس ولها أيضاً أسرار كما النساء. تتغير وتتبدل بالعمران والشجر والتعرية لكن تورنتو أنجزت شكلها النهائي المستقر الذي لا يقبل الشيب والتجاعيد ولا يحتمل الإضافة.

هي نفسها كما رأيتها قبل عشرين عاماً، مدينة لا تغادر بيتها كأنها تسمّع نشيداً حفظته قبل مئات الأعوام، لها شتاء من لهب، إنه لمن النادر جداً أن يتحول البرد إلى نار ويكتسب صفات اللظى لكنه يحدث في تورنتو.

هناك علاقة جدال مستمر بين الأرض والسماء في كل صباح يتجدد خلال أشهر الشتاء، ينهمر الثلج لثلاثة أيام، ثم يعقبه المطر ليومين ولا تصفو السماء إلا كي تعبد الطريق لمطر متجمد، هكذا يستمر كل الأسبوع، ثلج ومطر وثلج متجمد وبين الثلاثة، رياح لها سواعد، حدث قبل وصولي بيومين أن هبت ريح تصادمت على إثرها ثمانون عربة في الطريق السريع!

سبحان ربك لا ينشط الناس بدنياً ومعنوياً إلا في هذا الفصل الأشبه بالأسطورة، والناس يشبهون هذه المدينة في طباعها فملامحهم لا تتغير وأوداجهم لا تتهدل ولا تطرأ على هاماتهم التجاعيد، ربما لأنهم صاروا ضمن ما يحفظه البرد في هذه الثلاجة المهولة.

قابلت طبيبة التحاليل الطبية هي نفس الهيئة التي رأيتها منذ 15 عاماً مضت، حيتني كأنها (شافتني امبارح). هي امرأة لها قبضة كف ناعمة، حين تصطدم يدها اليمنى بساعدك تحس أن باطن كفها مثل (القعونجة) في النعومة الرخوة ومثل بطن الأرنب حين تركض الحقنة على وريدك!

رغم الثلج الذي ينهمر بلا انقطاع تتدافع العربات أيضاً دون توقف فلا شيء يتوقف هنا إلاّ الدهشة، لا أنسى ذلك اليوم المنفلت البرودة الذي وافق يوم 25 مارس حيث قطعت مسافة مائة متر لمعمل الموجات الصوتية، كانت موجة بلا صوت، أحسست بنيزك اخترق طاقية الصوف واستقر بطبلة أذني فمسني لهب في ركبتي اليمنى حتى ارتج جسدي، حين بلغت مبنى المعمل تغير كل شيء، الدفء المصنوع كالبرد الطبيعي، صقيع على بعد مائة متر من دفء يمد لسانه للبرد، هنا فهمت تماماً معنى بيت شعر لمحمود درويش:

كيف تحاول خمس حواس مقابلة المعجزة

وعيناك معجزتان

أهم القنوات الفضائية في هذا الفصل هي قناة الطقس، تعمل هذه القناة على مدار الأربعة والعشرين ساعة، ترصد الثلج في طور التخلق والطفولة حتى يشتد ساعده ليرمينا، لا يخرج أي كائن من منزله إلا بعد التزود بالمعلومات الدقيقة عن تبدلات الطقس خلال اليوم وأهم من ذلك ما سيخرج من سبيل السماء!

للشاعرة رقية وراق قصيدة عنوانها (مناحة الصقيع) مطلعها:

الثلج كالني والرماد، كانت هذه القصيدة سلوتي في تسعينيات القرن الماضي وكتبت عنها كثيراً، لأن البرد كتبها نيابة عن الشاعرة ولأن رقية لم تكن إلا وسيطاً بين الزمهرير التي يمتلأ بها شعرها.

بسبب هذا الطقس الذي يعجز عن وصفه ابن الرومي لم أقابل الكثير من الأصدقاء، ولم أزر الأماكن الرحبة التي خلدتها كندا في ذهني، لم أقابل كرستينا ديفد التي جاءت بي إلى هنا من القاهرة فهي امرأة من أفضل الرجال الذين عرفتهم.

حسب إفادات قناة الطقس فإن الأحوال الجوية ستتحسن بعد أسبوعين، أسأل الله أن ينصلح حال جسدي في ذلك التاريخ وقد جاء بي جسدي إلى هنا كي تستمر حياتي مثل الأرض في الدوران.

صحيفة الانتباهة