محمد محمد خير يكتب: ذكرى شيبون الخامسة
أنا حزين هذه الأيـام، إنه حزنٌ لم آلفه من قبل، حزنٌ صموتٌ كالطريق من الجحيم إلى الجحيم، كما يقول صلاح عبد الصبور، حزنٌ كل ما حاولت الخروج منه التفَّ حولي وطوَّقني (وتشعلق) وزحف وتثنَّى حتى تسربلتُ به.
لستُ وحدي، وهذا عزائي، إنه حزنٌ عمَّ كُلَّ كندا، سهولها وثلوجها وبحيراتها، وعمَّ كُلَّ سودانيٍّ هاجر لتلك البراري وكان شيبون في استقباله، حزنُ جاليةٍ كاملةٍ خرجت واستقبلت وجه الله الرحيم مُصلِّية عليه حسب ما أوصى بأن يدفن في كندا!!
لم تكن وصيته تحمل احتقاراً لتراب السودان، فهو النابت من ذلك التراب بكل تلك الخصال الفاتنة التي طبعت حياته الزاخرة، ولولا تراب السودان وخصوصيته لما كان شيبون بكل ذلك التفرد والعلو الإنساني والإجماع، فهو الفرد الوحيد الذي كان عليه إجماع قومي، لم تبهره حضارة الغرب وتلزمه حدود الأنا وتذوب سودانيته بالفردانية، فقد كان نموذجاً لمفرد بصيغة الجمع، كان الكل في أناه الناس والبلد والجالية وكنت من خلصائه المقربين.
من أبرز مآثره على كثرتها أنه اشترى مقبرة من ماله الخاص ليدفن فيها كل سوداني لا يملك ثمن القبر، فالمقابر هنالك تباع. النظام الاجتماعي يتكفل بالإنسان حياً لكنه يُلزمه بأن يشتري قبره حين يُفارق الحياة. الحكومة مُلزمةٌ بمنطوق عقدها الاجتماعي بأن تتكفل الإنسان الحي، وتوفِّر له الغذاء والمسكن والعلاج إذا كان عاطلاً، لكن ما إن تصعد روحه نحو ملكوت آخر ينسدل كفن البرد على ذلك الالتزام، وتُصبح الحكومة في حِلٍّ من هذه الشراكة. إنه الفصل التام بين التزامات النظام السياسي في الأرض ورحمة النظام الإلهي في السماء!!!
اشترى شيبون تلك المقابر، وعندما تيقَّنَ أنه سيكون أول ساكنيها، أوصى بأن يُدفن هناك، فافتتح بموته مشروعه الخيري الخاص، وكان أول ساكنيه في مقبرة تُطلُّ بإذن الله على كل بوابات الجنات، قصد بمشروعه الآخرين ولم يكن يقصد نفسه، لكنه كان أول ساكنيه، فيا من يبدل كل يوم حُلَّة أنَّى رضيتَ بحُلَّة لا تُخلع؟!
أنا حزينٌ وموجوعٌ ومخطوفٌ ودائمُ الإرسال للدمع السخيّ، أما قلبي فقد صار يلقطُ النبض المُجفَّف كالحمامة، رغم مرور خمس سنوات على رحيله الفاجع!!!
صحيفة الانتباهة