مكي المغربي يكتب: نقابة لا قانونية خير من لا نقابة!
باديء ذي بدء، أنا أقف مع قيام هذه الإنتخابات وأرى أنها يمكن تقنينها بسبب أن الدولة في عهد قحت هي التي قصرت تقصيرا فادحا في تنظيم الإستحقاق الإنتخابي للصحفيين بل وكل المهنيين والعمال في السودان، ولا يمكن أن يتحمل الصحفيون تقصير غيرهم، والحكومة الحالية (سمها كما تريد، قحت ب أو اتفاقية جوبا أو انقلابية) عليها التحلل من ذنب حكومة قحت بتقنين هذه المبادرة أو بتنظيم إنتخابات اتحاد الصحفيين، ولا يوجد خيار ثالث.
رأيي محايد وصادق تماما، فأنا لست جزءا من هذه الإنتخابات البتة، والإقصائيون فيها يرغبون في أشخاص آخرين، ومن رابع المستحيلات بالنسبة لي الترشح لإتحاد الصحفيين الشرعي أو حتى تولي أي أمر لخدمة كيان كبير أو مؤسسة، هذا أمر يتطلب ظروفا ومواصفات شخصية لا تتوافر بالنسبة لي في أي وقت قريب، ولا صلة لي بهذه المعركة إلا بمقدار النصح لقبيلة الصحفيين فقط لا غير، وسأسرد بعض النقاط هنا علها تنفع:
أولا: لا بد لأي متحدث أو متوهم أو “طامح” في اتحاد أو نقابة الصحفيين أن يعلم تماما أن فرص توظيف هذا الجسم حزبيا في السودان تحديدا وبوجود الصحفيين السودانيين معدومة تماما، إتحاد الصحفيين في العهد السابق كان يتولى قضايا صحفيي المعارضة في المحافل الدولية، ويحفظ حقوقهم في الاسكان وهم في المنافي، إلا من أبى، ولا يستطيع أن يفعل غير ذلك، لأن رقابة القبيلة الصحفية شرسة للغاية.
الكيانات الموازية كان يمكن توظيفها سياسيا في العهد السابق لأن الصحفيين لا يعتبرونها ملكهم إنما مجموعات مسيسة أو قوائم انتخابية تمارس التسخين خارج الملعب. الصحفيين أصلا “قبيلة احتجاجية” لا تمارس الطبطبة إلا “في سياق الدراما” كما تقول النكتة، والذي يتولى أمرها بالحق يجرون على جلده الشوك بالنقد والتوبيخ العلني والتشهير في أقل خطأ، بل أحيانا بغير أي خطأ، فما بالكم فيمن يدعيها والصحفيون غائبون أو مغيبون وراغبون في كيان اكثر سعة و أوفر حظا في استخلاص المكاسب لهم، لذلك ما أن تقوم نقابة منتخبة وتفتح دارها ستخدم الصحفيين كلهم “وكراعها فوق رقبتها!” وبدون شكر ولا إنصاف لأشخاصها، إلا بعد الإنتقال للرفيق الأعلى، ومثال ذلك ما قالوه عن تيتاوي بعد وفاته وسكتوا عنه في حياته.
ثانيا: الصحفيون في السودان تعدادهم كبير وحقيقي وغير مزور كما يجعجع البعض، وقد كانت هنالك محاولات عديدة من الناشطين والصحفيين المسيسين في زمان سابق باعتبار أن صحفيي التلفزيون والإذاعة وسونا والمؤسسات الرسمية غير صحفيين ومجرد موظفين دولة، هذه المحاولات فشلت داخليا وخارجيا، ولم تؤدى إلى شيء سوى تعزيز دور الإتحاد القائم محليا ودوليا.
الحديث عن صحفي التلفزيون الذي “يعتل” الكاميرا فوق ظهره ويمشي في الوحل والمآسي في زمان السيول والفيضانات لنقل الصورة للمشاهد السوداني، أو مراسل صحيفة القوات المسلحة الذي يبيت ليالي في الخطوط الأمامية في الفشقة ولو نجى من القذيفة وارد جدا أن تصطاده مليشيات الأمهرا وتقتله أمام المواطنين في السوق، الحديث عن هؤلاء أنهم غير صحفيين وأن الصحفيين هم فقط هم المزيج الجديد (كاتب – ناشط – مدون) حديث فيه لؤم وظلم.
أنا لا اقلل من دور (المزيج الجديد) هنالك قضايا مهمة يتصدون لها ولو أخذنا على سبيل المثال الحق في التظاهر والإحتجاج، كان هذا المزيج هو الرائد في اسلوب الوقفات الإحتجاجية والتضامنية، وهي التي أهلته للإهتمام الدولي ولكن هذا لا يمنحه الحق في الإسائة للصحفيين وحذف من يريد وإثبات من يريد.
طبيعة “مهنة الصحفي” تختلف عن الطبيب، عن المساعد الطبي، عن فني المختبرات، عن مهندس المساحة، عن السفير، لا يمكن لسفير في الخارجية مثلا أن يتوقف بسيارته ويجد مصابا على الطريق ويسعفه ويتخذ بعدها قرارا بفتح عيادة لانه اسعف مصابا.
ولكن ذات السفير يستطيع أن يصيغ خبر يوميا، ويجري حوارا حول أزمة دولية نووية، ويمتلك مركزا للخدمة الصحفية، ويمتحن للقيد الصحفي، وينجح، وربما يصبح موقعه الألكتروني الأول في نشر أخبار دولية، بل يمكن أن يتنبأ بأحداث دولية وتحدث وينال جائزة إعلامية دولية في هذا السبق الصحفي.
مهنة الصحافة لها قواعد وأصول في الممارسة ولكن ليس لديها أسوار حصينة تمنع دخول المواطنين إليها، باختصار توجد شروط استمرارية صعبة وشروط دخول ميسرة، الصحافة رغم انها مهنة إلا أنها – بسبب الطابع الابداعي الخلاق – فيها شبه من الشعر له أصول وقوعد أوزان وقوافي ولكن لا يمكن أن تقف على بوابة اتحاد الشعراء وتقول بالله خريجي كليات الآداب بي جاي، ورجال الاعمال بي جاي، وضباط الجيش بي جاي و موظفي الدولة بي جاي، ستقول أين النصوص وتنظم مسابقة الإلقاء لهم وينال جائزة أفضل شاعر من ينالها.
باختصار لا يوجد ما يمنع أن يكون موظف الدولة صحفيا، يمكن للنقابة حذفه من السجل عندما يقوم بعمل ضد لوائحها وهذا الحذف لا يتم بالهوى والتصنيف السياسي إنما وفق قرار من لجنة من عمالقة المهنة ويجيزه مجلس النقابة المنتخب، ويجوز له الإستئناف في القضاء، هذه هو المعمول به في أرقى الديموقراطيات ولا يوجد أي بديل إلا كان “دريبات وجدي صالح”!
مثال ذلك، لو هنالك وزيرا حكوميا حرض على الصحافة في بلاده وقال “تسعين بالمئة منها ضد الثورة” ويقصد بذلك النظام الموجود والذي ينتمي له حزبيا وحكوميا أنا شخصيا أعتقد أنه لو وجدت نقابة محترمة كان يجب أن تحاسبه وتناقش إحتمال أن ينتمي للمهنة بعد أن حرض عليها في وضع يعلم أن حياة الصحفي وسلامة المؤسسات مهددة بأي تطرف أو تعصب، بل كانت تحدث اعتداءات على زملاءه وعلى دور الصحف، ولو قتل صحفي في ذلك الوقت في مظاهرة أو اضطراب مدني سيكون شريكا في قتله، لكن مجرد وصف “وزير” لا يكفي لإنتزاع السجل الصحفي منه.
ثالثا: الجدل الدائر الآن حول انتخابات قانونية وغير قانونية والتسييس الحاد الذي يتعرض له شأن النقابة أو الإتحاد، هو جدل خطير ويحتم على الصحفيين أن يفتحوا عيونهم لترى الصورة الأوسع.
ما هو ذنب الصحفي أن يتم تعطيل الجسم النقابي الذي يمثله، نعم صحيح بعض الذين يتصدون الآن لتأسيس جسم نقابي جديد كانوا ينتمون لأحزاب ومجموعات ناشطين كانت في السلطة وعطلت الإستحقاق الإنتخابي بسبب رؤية تخصها، وهذه الأحزاب ترغب في تأسيس النقابة حاليا لأنها خسرت السلطة، ولكن أيضا لأن الصحفيين لهم حق أصيل في تأسيس جسم نقابي الأفضل لهم الإنحياز لهذه الدعوة وعدم مقاطعتها وإرساء حجة أنها قامت بسبب تقصير حكومي استمر لقرابة أربع سنوات والمسجل لا يرغب في إعلان الخطوات الإجرائية، ولتكن معركة استرداد الجسم النقابي من الاختطاف السياسي هي المعركة الثانية.
هذا التقصير أشبه بتقصير لجنة التمكين المتعمد في قبول الإستئنافات وترغب بذلك قطع الطريق على الضحايا من اللجوء للمرحلة الاعلى وهي القضاء بتغييب “مرحلة وسطى” ولكن القضاء قال كلمته “أي تقصير حكومي وليس من المتضرر في مرحلة احتكام يعني اللجوء للمرحلة الأعلى” لذلك أن أدعو وبكل صراحة أن تقوم الإنتخابات وأن يذهب الأمر للقضاء، وعلى الأجهزة لأمنية عدم التدخل إطلاقا، اللهم إلا إذا قررت الدولة فورا تنظيم الإنتخابات وحددت الجدول، بذلك تصبح انتخابات نقابة الصحفيين حاليا موازية لجسم قانوني شرعي.
أما أن تستمر الدولة في منهج قحت في تعطيل النقابات بحجة أنها ستأتي بالكيزان والإسلاميين مجددا أنا أعتقد أن هذه أوهام فضحتها الأيام.
الإقصاء كان مغامرة فاشلة وانتهت، أنا (إسلامي صميم) والحمد لله، والتقيت طيلة هذه الفترة عشرات الخبراء والمسئولين الدوليين والأممين في السودان وخارجه، أو تواصلت معهم في مكاتبات ومعظم تواصل حول السودان بناء على طلبه، حتى الدول الصديقة و”الشقيقة” والعظمى، وكلهم أبدا مع أي شخص منهم بسؤال واضح جدا، أنا أنتمى فكريا للتوجه الإسلامي أرجو أن أؤكد لك هذا، وأتوجه لك بالسؤال هل تتبنى أي رأي أنه لا وجود لهم أوأنهم كما تقول قوى الحرية والتغيير ذهبوا لمزبلة التاريخ Ash Heap of History ؟ لك مطلق الحق أن ترى هذا، ولكن فقط هذه بداية لمعرفة الشخص الذي تتحدث معه جيدا.
من الطرائف، أن سفير سابق وباحث حاليا قال لي:
Did they say that? Well, not a big deal then, some of them came from there.
هل حقا قالوا هذا؟ ليست مشكلة كبيرة، بعضهم قدموا من هناك – (مزبلة التاريخ)!
ويقصد بذلك البعثيين والشيوعيين لأن النقاش كان حينها عن سياسة التحرير الإقتصادي والحكومة المنشقة على ذاتها.
المهم، والشيء بالشيء يذكر، سخافة الإقصاء لا أحمل لها هما البتة، هي بضاعة بائرة، لا تستطيع نقابة قانونية أو كيري التسويق لها، كانت فترة ركب فيها البعض أشواق الناس واحلامهم وسقطوا من ظهر الشعب السوداني بسبب الفشل الذريع، ولم يعد هؤلاء يستطيعون مجرد الخروج مع مظاهرة من أربعة أشخاص في شارع عام، إلا أن يحرسهم الإنقلابيون الذين يجالسونهم ليلا ويشتمونهم نهارا.
الخلاصة، أن قيام الانتخابات ولو معيبة، خطوة للأمام، ونقابة غير قانونية خير من لا نقابة، وسيتم تصحيح التشوهات السياسية بعد الإنتخاب لأن القبيلة الصحفية سيكون لها شأن آخر.
صحيفة الانتباهة