مقالات متنوعة

عبدالناصر عبدالرحمن مُسَبَّل يكتب : سياسات خلاقة تدير ظهرها لفشل روتين العهود الماضيه

الشارع السوداني اليوم هو من سلالة نفس الشارع الذي خرج من رحمه كوكبة من النساء و الرجال الذين سطروا إسم السودان و السودانيين بأحرف من نور في سجل التاريخ الإنساني و لأن العلوم الإنسانية الحديثة قد أثبتت أن الجينات الوراثية لا تنصهر أو تختفي بتمازجها مع جينات أخرى، فإن جينات الشارع السوداني مؤهلة لأن تخرج من رحم هذا الشارع كوكبة من النساء و الرجال بسمات إنسانية عالية النقاء يعيدون إسم السودان و السودانيين إلى موقعهم حيث كانوا في السطور الأولى لسجل التاريخ الإنساني. الشارع السوداني أصبحت لديه مدرسته الخاصة، حصيلة متميزة من تجاربه المتراكمة و أصبح يتقن تماما القراءة بين السطور و ما فوقها و ما تحتها.
بصورة عامة يمكن تلخيص تجاربنا السياسية الماضية بأنها تجارب تنميط على نموذج قالب واحد. حتى في الفترات التي قيل إنها فترات حكم ديموقراطي لم تخرج تجاربنا عن التنميط السياسي. عرف قاموسنا الثقافي السياسي مفردات محددة بحدود قاطعة تغصل بينها بوضوح تام. عرفنا اليمين، الوسط واليسار، و ترسخت في الثقافة الشعبية العامة معان ذات دلالات — قد لا تكون علمية — لكنها شكلت معاييرا عامة للتفريق بين هذه المفردات. قد يكون التنميط جليا عند الحديث عن تجربة اليسار في الفترة المايوية ( الإتحاد الإشتراكي ) كما هو واضح في الفترة الحالية (المؤتمر الوطني) ،لكن حتى في الفترات التي قيل إنها فترات الديموقراطية كانت هي فترا ت تنميط طائفي حيث سيطرت ر ؤى زعماء الطوائف على المسار السياسي للأحزاب أكثر مما سيطرت رؤى كوادر المثقفين المنتمين لتلك الأحزاب.
إن منصة الحزب الواحد الشاملة التي يمكن أن تنصهر فيها كل التطلعات و المصالح الخاصة بكافة الفئات الإجتماعية هي منصة غير ممكنة، غير واقعية، غير عملية و غير عصرية. لا يمكننا أن نجلس كل السودانيين حول طاولة واحدة.
لا يمكننا مثلا أن نوجد منصة واحدة إجتماعية أو.سياسية ترضي الفقراء و في نفس الوقت ترضي الأغنياء، ترضي الزراع و في نفس الوقت ترضي الرعاة في منطقة واحدة. إن أي حزب يحاول أن يستجيب لكل مصلحة من المصالح المتضاربة سيقف مكتوف الأيدي لأن المصالح تتجاذب في عدة إتجاهات، سيؤدي ذلك إلى إغضاب الجميع و غضب المرجعية الفكرية التي تشكل إتجاهات الحزب و سياساته. في هذه الحالة لن يكون للحزب أي قدرة ديناميكية للحركة لأن قواه المتعارضة سيحيد بعضها البعض. المطلوب و المرغوب هو أن أي جماعة تميزها سمات خاصة عن بقية الجماعات ينبغي أن تمثل في الحياة العامة و يكون لها ناطق بإسمها كما يكون لها نفوذ في الشئون العامة خاصة تلك المتعلقة بمصالحها الخاصة.
قد تتمكن مجسات الإحساس الوطني من رصد تيارات عميقة في حراك الشارع السوداني هذه الأيام. هذه التيارات هي نذر ثورة عارمة ضد الإندفاع النوعي لأساليب الحاكمين التي وجهت لتحطيم الكبرياء وعزة النفس عند الفرد السوداني،، و هي ثورة تهدف ضمن أهدافها الأخرى إلى وضع حدود واضحة بين شرف المهنة أو الوظيفة و كرامتها عند العاملين و بين سطوة شهوة الإستعباد و الإذلال عند أصحاب السلطة والنفوذ.
لا يرغب أحد في إضاعة الوقت في المجادلة حول ضرورة أن يكون هنالك تغييرات كبيرة أم لا، فهذا موضوع قد حسم تماما.
ما يستحق النقاش هو الطريقة التي ينبغي أن يتم بها التغيير. من مسار الأحداث الجارية التي أوضحت تخندق السلطة في كهفها القديم، يبدو لي أن خياراتنا للتغيير تقع بين مسارين : المسار الحركي للشارع السوداني و الذي يشبه التيار المتردد بوجهين سالب وموجب و المسار الموجه للحراك برؤية شاملة و الذي يجب ان يتبلور في قيادة جماعية واعية مجربة وحذرة. لا أرجو أن يحاول البعض إكساب حركة الشارع عصمة تمنعها من أن تحول مكونها السالب إلى إندفاع أعمى بل أرجو إن حدث ذلك أن يكون للقيادة الواعية المسلك الذي يمكنها من الضبط و
السيطرة القيادية لإخراج التيارات العميقة من سراديب الإمتعاض والإستياء إلى ساحات النقاش السياسي الصريح الفاعل. المطلوب قياديا هو تحويل الدمدمة الصامتة و (النقة) إلى برنامج حضاري يكون مخرجا ذكيا للقوي التي خلافا لذلك قد تصبح كارثية تماما.
بعيدا كل البعد عن عالم التحزب يمكن للمتابع اللصيق للأحداث الجارية ملاحظة أن ثمة رؤي ثقافية سياسية جدبدة بدأت ملامحها تتشكل بأسلوب تصالحي محترف يجمع بين كيانات وتجمعات سياسية ونقابية ذات توجهات مختلفة. يشير هذا الأمر إلى أن هنالك دافع فكري عصري يدفع إلى ضرورة التحرر من عصبيات الماضي الصدئة بإتجاه إنسجام طيف من الأفكار الإنسانية الحرة، و هذا أمر جدير بالإهتمام و الإحترام. صحيح أن قنوات التعبير السياسي يجب أن تكون كيانات سياسية و قنوات التعبير النقابي يجب أن تكون قنوات نقابية وفقا للتصورات القديمة السائدة. لكن الأكثر صحة من ذلك هو أن الظاهرة هي علامة دالة على أن إهتمامات و مصالح حياتية أكثر و أكثر قد بدأت تجد القنوات السالكة للتعبير عن نفسها بوضوح تام ضمن قنوات سياسية / نقابية مشتركة. ذلك هو الطريق الصحيح لرسم الخطوط لمسارات المستقبل بعيدا عن الإرث القديم الذي ساد سابقا أو الجديد الذي يسود حاليا والذي يتمثل في إستغلال العمل النقابي كسلاح إسناد في المعارك السياسية . أقول إن ثقافة جديدة بدأت تتبلور . قد يتأثر بها البعض كثيرا وقد يتأثر بها البعض الآخر بدرجة أقل لكن لن يفلت أحد من هذا التأثير. بدون هذه الثقافة الجديدة لا يمكننا في عالم اليوم أن نتطلع إلى سياسات خلاقة تدير ظهرها لفشل روتين العهود الماضية : أساليب القهر و الكبت و الإقصاء و التهميش و التعالي، قوائم التشريعات التي تمنع وتحرم وتحظر حسب أمزجة السلاطين والسعة المعرفية لعقول جوقة الحاشية و المريدين والأتباع، عبادة الأصنام والتماثيل التاريخية، علاقة
(كرام المواطنين) بالسواد الأعظم من أفراد الشعب السوداني و كل سياسات الغايات والأهداف غير الإنسانية. ليس هذا فحسب، بل إن هذه الثقافة التي بدأت تتخلق هي التي ستمهد للأجواء و الظروف المناخية الملائمة لإزدهار حياة سياسية يرتكز مركزها على أفكار وأساليب و غايات إنسانية.
و رغم كل ما يمكن أن يقال عن تباينات و إختلافات إلا أننا ينبغي أن نحتفي ونبتهج بهذه الثقافة الجديدة لأن من الكثرة تزيد الوفرة وحيثما يتوقف نمط القالب الواحد الإقصائي المتعنت عن النمو تزدهر أنماط الإبتكار و الخلق و الإبداع و إرساء مختلف لجوانب الحياة الإنسانية. و هذه هي أولى بشائر فجر التحرر و الديمقراطية الحقيقية. تحياتي…

صحيفة الانتباهة