تحقيقات وتقارير

السودان يواجه كارثة تسرب مدرسي لثلث أطفاله

متخصصون: من الصعب استقامة الوضع التعليمي بميزانية صفرية ومناطق النزاعات الأكثر تأثراً


ما يعيشه السودان من وضع اقتصادي مترد وفراغ سياسي بغياب حكومة تنفيذية قرابة العام بسبب قيام قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان وقف العمل بالوثيقة الدستورية وتعطيل الشراكة مع المدنيين، ألقى بظلاله على الأنشطة والمجالات الاقتصادية والخدمية كافة، لا سيما التعليم الذي يواجه جملة من المشكلات المستعصية، لكن برزت مشكلة تسرب الأطفال من المدارس كظاهرة مقلقة بصورة لافتة ومتنامية في الوقت نفسه، فقد قدر تقرير إحصائي مشترك لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) ومنظمة “أنقذوا الأطفال” عدد الطلاب الذين في سن الدراسة لكنهم تركوها لأسباب مختلفة بنحو 6.9 مليون طفل، مقارنة بنحو 3.6 مليون تلميذ في 2021، ما يعني أن ثلث الأطفال السودانيين بلا مستقبل. فكيف ينظر المتخصصون في مجال التعليم لحقيقة الوضع في البلاد وما يعانيه من مشكلات بخاصة ما يتعلق بتسرب التلاميذ من المدارس؟

تدهور البيئة

يقول المتخصص التربوي أحمد المصطفى إبراهيم، إن “مشكلات التعليم بشكل عام في السودان كثيرة ومتباينة ما بين المدن والقرى، في الأولى نجد أن الرسوم المدرسية عالية جداً في المدارس الخاصة، فيما تشهد المدارس الحكومية تدهوراً مريعاً في البيئة، أما في القرى فهناك نقص مستمر في المعلمين، إذ لا يفضل المعلمون من الرجال التدريس في القرى ما جعل المعلمات هن الأكثر في المدارس القروية، فضلاً عن تهالك المدارس التي غالباً ما تكون مبنية من الطين أو الطوب وأحياناً في شكل أكواخ القش، إضافة إلى انعدام عملية التدريب لعشرات السنوات بسبب توقف المعاهد الحكومية التي كانت تقوم بتأهيل المعلمين لأسباب اقتصادية تتعلق بنقص الميزانيات المخصصة لهذا الجانب”.

وأضاف، أن “ظاهرة العزوف عن الدراسة تزداد في المناطق الطرفية والبعيدة التي لا تحظى بتوفر خدمات الكهرباء والمياه وغيرها، إلى جانب مناطق الحروب، لكن ما أشار إليه التقرير الإحصائي المشترك لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) ومنظمة (أنقذوا الأطفال) ببلوغ عدد التسرب المدرسي قرابة سبعة ملايين طفل يمثل صدمة ترتقي لمستوى الفضيحة في بلد عرف التعليم مبكراً، بل كان وجهة لتلاقي المعرفة والعلوم المختلفة لكثير من طلاب دول الجوار، فهذا الرقم مخيف مقارنة مع عدد السكان البالغ 40 مليون نسمة”.

مؤن غذائية

وأوضح إبراهيم “لا أحد ينكر أن هناك عزوفاً وتسرباً مدرسياً في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية، لكن كانت هناك جهود مثمرة لمعالجة هذه المشكلة بخاصة في الإقليم الشرقي من خلال طرق جاذبة وتشجيع الأسر في المناطق النائية بمنح تلاميذ المدارس مؤناً غذائية حتى يسمحوا لأطفالهم بالالتحاق بالمدارس في المراحل المختلفة، وبالفعل حققت هذه المبادرة نجاحاً إلى حد كبير، أما في مناطق دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة التي تشهد نزاعات وحروباً فتأثرت كثيراً بظاهرة التسرب المدرسي بسبب عدم الاستقرار كعامل رئيس، لكن العامل الآخر المشترك يتمثل في الفقر، فهناك نسبة كبيرة من الطلاب غير قادرين على توفير المستلزمات المدرسية من ملابس وأدوات وغيرها، فهي مكلفة بالنسبة إليهم ولو كانت متواضعة”.

وواصل “هذا الوضع المأسوي يتطلب معالجات في مجال التعليم بشكل عاجل، وآخر على المدى المتوسط والطويل، بخاصة أن المدارس ستفتح أبوابها مطلع أكتوبر (تشرين الأول)، فلا بد أن تفكر الدولة في إعادة السكن الطلابي داخل المدارس كما كان في السابق حتى يدرس الطلاب مرتاحي البال، والعمل على تأهيل المدارس بالسرعة المطلوبة في المناطق التي ضربتها السيول والأمطار الأخيرة وأدت إلى هدم قرابة 150 مدرسة.

وبشكل عام فإنه من الصعب أن يستقيم الوضع التعليمي في ظل تدني ميزانية التعليم التي لا تتعدى اثنين في المئة من إجمالي الموازنة العامة للدولة، وهو رقم متواضع ومخجل بل ميزانية صفرية، فمن المهم أن تضع الحكومة السودانية التعليم أولوية في بنود صرف ميزانيتها بأن تبلغ على الأقل 20 في المئة من حجم الموازنة حتى ترتقي بالإنسان السوداني، فمؤكد إذا بني التعليم تبنى الدولة”.

ولفت الخبير التربوي إلى أن “معالجة مشكلة تسرب الأطفال من المدارس في مناطق النزاعات تتطلب تصميم برنامج قصير وطويل المدى يكون أساسه الوعي المجتمعي بصورة تدريجية حتى يصل جميع سكان تلك المناطق إلى قناعة تامة بأن التعليم لا مفر منه وهو ما يضمن مستقبل أبنائهم ويجعلهم أسوياء في الحياة”.

جوع وفقر

من جانبه، أوضح الأمين العام للمجلس القومي لرعاية الطفولة في السودان عبدالقادر عبدالله أبوه، أن “أطفال السودان على وجه العموم يواجهون مشكلات عديدة سواء من ناحية الجوع والفقر الضارب غالبية الأسر، أو بسبب ظروف الحرب وعدم الاستقرار، بالتالي نجد أعداداً كبيرة منهم تتسرب من المدارس باتجاه العمل في الأسواق ومناطق التعدين وغيرها، فالشارع السوداني يستوعب عدداً لا يستهان به من المتشردين بشكل جزئي وكلي، وهو أمر خطير يتطلب التعاضد والتعاون من قبل الحكومة والمجتمع والمنظمات المحلية والدولية لإيجاد حلول ومعالجات سريعة ومستقبلية”.

ونوه أبوه، إلى “أهمية تعاظم دور الأمم المتحدة ممثلة في (يونيسف) من ناحية المساعدة في علاج المشكلات التي يعانيها الطفل السوداني مثل التسرب المدرسي والتشريد من خلال بناء المدارس والمستشفيات ودور الإيواء وغيرها، وألا يكون دورها مجرد جهة إحصائية لأنها قضايا شائكة لا تقبل الانتظار، بخاصة أن البلاد تعرضت لموجة فيضانات وسيول أدت إلى انهيار عشرات المدارس، فهي كارثة ليست محل تحكم أو إزعاج، بل تحتاج إلى تدخل إنساني”.

وتابع “لدى المجلس استراتيجية ترتكز على العمل من أجل أمن واستقرار وحماية الأطفال باعتبارهم يمثلون نحو 53 في المئة من سكان البلاد، إذ يحتاجون إلى التربية والتعليم والرعاية الصحية اللازمة وتوفير الحماية لهم، فضلاً عن العمل على لم شمل الأطفال ضحايا الحروب والنزاعات المسلحة والنزوح مع أسرهم، وهذا عمل كبير يتطلب شراكات مع الجهات الحكومية والمنظمات العالمية والإقليمية ومنظمات المجتمع المدني العاملة في مجال الطفولة، فمن شأن هذا العمل أن يؤدي إلى ردم الهوة الحادثة الآن في هذا الجانب”.

وأشار الأمين العام للمجلس القومي لرعاية الطفولة إلى أن المجلس بصدد الإعداد لمؤتمر يناقش المسؤولية المجتمعية تجاه الطفل من منظور التنمية المستدامة على المستوى العربي والأفريقي، ويهدف المؤتمر الذي سيقام في نوفمبر (تشرين الثاني) إلى بناء قاعدة بيانات متكاملة لأطفال السودان المستقرين والذين يعانون مشكلات الهشاشة.

كارثة جيل

وبحسب التقرير الإحصائي المشترك لمنظمتي “يونيسف” و”أنقذوا الأطفال”، فإن “واحداً من كل ثلاثة أطفال بسن الدراسة في السودان لا يذهبون إلى المدارس، ويواجه قرابة 12 مليون تلميذ آخرين مشكلات تتصل بعدم استقرار التعليم جراء نقص المعلمين، وتردي البنى التحتية، وضعف البيئة المدرسية”.

وأرجع التقرير سبب الأرقام الكبيرة للطلاب خارج المدارس في السودان، لا سيما الإناث إلى تفاقم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وتنامي ظاهرة النزاعات وإغلاق المدارس لفترات طويلة بسبب “كوفيد-19″. واصفاً الوضع الذي آل إليه التعليم في السودان بـ”كارثة جيل” ذلك أن ثلثي التلاميذ يواجهون مشكلات كثيرة، بينما الثلث الآخر بات خارج العملية التعليمية تماماً.

وحض التقرير على ضرورة إعادة فتح المدارس وتوفير فرص التعليم البديل للأطفال الذين فاتتهم سنوات عديدة من الدراسة، مشيراً إلى أنه بمجرد أن يترك الأطفال المدرسة، فإن فرص عودة الفتيات والفتيان إلى المدرسة تكون منخفضة، لكن الفتيات يعانين من الأمر بشكل خاص.

إسماعيل محد على
إندبندنت عربية