خطل السياسة العقابية في السودان!!
بقلم: حمدتو مختار المهير
▪︎ أتاحت لي فرصة الحبس القصيرة التي أمضيتها بين سجني كوستي والهدى بأم درمان أن أقف على حجم المأساة التي تتسبب فيها السياسة العقابية والتي تعتمد السجن لمدد طويلة وسيلة (فعالة) لردع المجرمين ولرد المظالم إلى أهلها، وبما أنني أمضيت نحو عشر سنوات بالمجلس الوطنى حيث تجاز القوانين التي تزيل عادةً بمادة تقرأ : كل من يخالف هذا القانون يعاقب بالسجن لمدة كذا من السجن والغرامة بمبلغ كذا أو بالعقوبتين معاً.
وما كنا نتوقف كثيراً في إجازة هكذا قانون ظناً منا أن من قاموا بصياغة هذا القانون لابد أنهم قد راعوا فيه ما تقتضيه المصلحة العامة من ردع للمجرمين حفظاً للمصلحة العامة وصوناً للحقوق الخاصة.
▪︎ لقد أتاحت لي فرصة وجودي في السجن الإنتباه إلى حجم الخراب والدمار الذي تحدثه هذه العقوبات حين تعتمد الحبس الوسيلة الأكثر استخداماً لمعاقبة الجناة وأول ما أنتبهت إليه أن هذه العقوبة لأ صلة لها بالاسلام ولا بشريعته الغراء، فعقوبة السجن عقوبة فرعونية مثلها مثل الختان الفرعوني ولم ترد عقوبة السجن إلا في تسع مواضع في سورة يوسف وموضع واحد في سورة الشعراء حينما خاطب فرعون موسى عليه السلام ( لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ ) الآية، أما القرآن الكريم فليس به عقوبة السجن لأن عقوبة السجن عقوبة متعدية لا يقتصر ضررها على المجرم وإنما تتعداه للأسر كما أنها عقوبة مستمرة في حق المدان بينما العقوبات الشرعية عقوبات فورية ويقتصر ضررها على المدان فقط لأن القاعدة القرآنية تقول ( أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ) الآية، فكم من أسر أصابها ما أصابها بسبب الغياب الطويل لعائلها الوحيد
والسؤال هو: من أين جاءت إلينا هذه العقوبات؟! إنها من بقايا الإرث الاستعمارى الذي جثم على صدر هذه الأمة لعقود متطاولة فصور لها أن العقوبات الشرعية عقوبات قاسية ولاتناسب العصر الذي نحن فيه فإتبعناهم في ذلك معصوبي الأعين دون النظر إلى حجم الخراب الذي أحدثته وتحدثه هذه العقوبات خاصةً عقوبات المدد الطويلة الخاصة بالمخدرات والتي تتراوح بين العشر والعشرين من السنوات وهي بذلك تقطع الطريق على التوبة وعلى التعقل التي قد تطرأ على الجانى في أية لحظة من لحظات حياته والأنكأ منها العقوبات التي توقع على المدينين دون النظر إلى أحوالهم من حيث اليسر والعسر فأنا أعجب من قاض يقضي بحبس المعسر إلى حين السداد والله يقول فى محكم تنزيله ( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ ) الآية.
▪︎ أنني متعاطف أشد التعاطف مع الذين يقبعون خلف أسوار هذه السجون وكان بالإمكان أن توقع عليهم عقوبات شرعية هي أشد ردعاً وأكثر رحمةً إذ يقول عنها جل جلاله ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) الآية، وبرغم هذا التعاطف مع المسجونين إلا أننى أكثر إشفاقاً على هذه الدولة التي تنفق المليارات يومياً على هذا الكم الهائل من السجناء إطعاماً وعلاجاً وحراسةً وأعباء إدارية باهظة التكلفة في حين أنها في أمس الحاجة لتوجيه هذه المبالغ الطائلة إلى كثير من أوجه الصرف على الخدمات الضرورية التي يحتاج إليها المواطنون هذا بجانب أن هولاء المحبوسين من الشباب ومن أصحاب المواهب والخبرات في مجال المال والأعمال الذين حرموا من مزاولة أنشطتهم التجارية والزراعية ومن بين هؤلاء من أصابتهم جوائح لا يد لهم فيها فمنهم من تعرضت بضائعهم للتلف جراء الحريق الذي إندلع فى ساحة الميناء التي تكدس فيها البضائع ومنهم من نفقت مواشيه بسبب إرجاعها من جدة، فبينما كان واجب الحكومة أن تأخذ بيد هؤلاء وتقيل عثرتهم فإذا بها تحبسهم لمدد غير معلومة في مخالفة صريحة لقوله تعالى ( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ ) الآية، ثم أنه ما الذي يجعل الدولة تقوم بحبس معسر والإنفاق عليه إطعاماً وعلاجاً وهي ليست طرفاً في المعاملة التي كانت بين الدائن والمدين وأن كان لابد فأولى بالدائن الذي يصر على حبس المدين أن يتكفل بدفع تكلفة هذا الحبس لا الدولة التي هي في أمس الحاجة لهذه المبالغ التي تنفق على بناء هذه السجون التي سميت مدناً لضخامتها ولكثرة المحبوسين فيها.
▪︎ قد يقول قائل ما البديل لعقوبة السجن
البديل هو العقوبات الشرعية التي لا حبس فيها، فالعقوبات الشرعية أما حدود أو قصاص أو تعازير وليس من بينها الحبس فحتى الفقهاء الذين أجازوا الحبس قياساً على التغريب الوارد في حديث رسول الله (ص) قالوا بعدم جواز الحبس بما يتجاوز العام وسنواصل الحديث بإذن الله عن هذه العقوبة الحاطة بالكرامة والتي ألحقت أضراراً بالغة بالمحبوسين وبأسرهم وبالمجتمع دافع الضرائب الذي تقوم هذه الحكومة الفقيرة بالإنفاق نيابةً عنه على هذا الكم الهائل من المسجونين كما تقوم بتشييد المزيد من المدن المسماة إصلاحية، لاستيعاب الأعداد المتزايدة من المدانين.
نواصل
صحيفة الانتباهة