مقالات متنوعة

جدوى التعاون مع المؤسسات المالية الدولية – تعقيباً على صبري العيكورة!!

بقلم/ التاج بشير الجعفري

سعدتُ حقيقة بما سطره قلم الزميل الأستاذ صبري العيكورة بصحيفة (الانتباهة) عن مقالي بعنوان (زيارة رئيس البنك الدولي للسودان .. ماذا بعدها؟) والذي حلت الذكرى الأولى لنشره في التاسع من شهر أكتوبر الحالي.
وربما أجد العذر للأخ صبري أنه لم يجد فرصة للإطلاع على المقال والتعليق عليه العام الماضي نسبة لازدحام الساحة السياسية حينها بالكثير من الأحداث الهامة، وكلنا نتذكر الحراك السياسي الكثيف وكثرة الخلافات والشائعات والإنفلات الأمني في الشارع حينها بسبب الخلافات السياسية بين المكونين المدني والعسكري.

ورغم أن المقال الذي عقب عليه الأستاذ صبري روى أحداثاً مرتبطة بفترة سابقة مضى عليها عام تقريباً؛ إلا أن بعض ما تفضل به من إنتقادات وردود على ما جاء في المقال لا يزال صالحاً للنقاش وإبداء الرأي حوله.

وهنا أدلف مباشرة للتعقيب على ما ذكره من خلال زاويته (صدق المداد) بتاريخ العاشر من شهر أكتوبر الحالي.

أولا لابد من الإشارة إلى أن رسالة أو أهداف مجموعة البنك الدولي للإنشاء والتعمير تتمثل في مكافحة الفقر وتعزيز التنمية وتقديم المشورة للبلدان النامية والفقيرة، بينما يساعد صندوق النقد الدولي الدول، من خلال قروض فورية، على إصلاح الخلل في ميزان المدفوعات وتثبيت السياسات النقدية واستقرار سعر صرف العملة المحلية.
وبما أن السودان عضو في هذه المؤسسات المالية الدولية فلا غرو من أن يستفيد مما تُقدمه من مساعدات مالية وفنية في هذا الإطار.
كذلك من المعلوم أن المنح والقروض التي يقدمها البنك الدولي تتم الموافقة عليها بموجب دراسات إقتصادية مستفيضة ووافية من كل الجوانب، للتأكد من الأثر الإيجابي الذي ستحدثه في مجال التنمية وتحسين حياة الناس؛ هذا فضلاً عن أن المبالغ المخصصة للمشاريع المتفق عليها يتم صرفها على مراحل وبحسب نسب الأعمال المنجزة
Percentage of completion
أما القول أن التعاون والعمل مع البنك الدولي يتسبب في تكريس الهيمنة الأجنبية ورهن لموارد البلاد للخارج؛ فهو حديث مردود عليه لأن الكثير من الدول تعاونت مع البنك والصندوق الدوليين واستفادت من المساعدات المالية والفنية التي حصلت عليها، وربما تكون هنالك بعض الدول التي لم تكن تجاربها ناجحة مع صندوق النقد الدولي إلا أن ذلك لا يُبرر التعميم؛ فلكل دولة ظروفها ومشاكلها بالإضافة لمقدرتها على تنفيذ الحزم الإصلاحية المطلوبة لمعالجة الخلل في الإقتصاد، وهذا ما قصده رئيس البنك الدولي عندما رفض أن يُعطي أجلاً محدداً لتحقيق الإستقرار والرخاء الإقتصادي حيث لا توجد (وصفات جاهزة) وإنما يعتمد الأمر على الجدية والإرادة القوية من “أصحاب الدار” لإنجاز البرامج المخطط لها وتحقيق الأهداف المطلوبة.

حري بنا أيضاً الإعتراف بأن حكوماتنا المتعاقبة خلال الفترات السابقة إهتمت في تعاملها مع الخلل في الإقتصاد من خلال الخطط “التكتيكية” قصيرة الأجل لإنجاح “الحقب السياسية” (إذا جاز القول أن هنالك حقبة سياسية ناجحة) بدلاً من الإهتمام بالمشاريع التنموية وبناء الإقتصاد من خلال حزم إصلاحية شاملة ومتكاملة وقائمة على أسس متينة وراسخة.

وأستدل على ما أقوله بدولة تركيا، وهي من الدول التي بنت جزء من نهضتها الإقتصادية على برامج مع البنك وصندوق النقد الدوليين، ويحكمها “حزب العدالة والتنمية” منذ اكثر من عشرين عاما وقد أنجز الكثير من المشاريع العملاقة في مجال التنمية والطاقة والبنية التحتية ووضع تركيا في مصاف الدول المتقدمة وضمن دول “مجموعة العشرين” الأقوى إقتصادياً في العالم.
فهل إذا فقد “حزب العدالة والتنمية” السلطة في الإنتخابات القادمة سيتدهور الإقتصاد وتنهار الدولة؟ قطعا لا، لأن ما تم إنجازه خلال العشرين عاماً الماضية كان بناء للأنظمة ودولة المؤسسات والحوكمة الإدارية والمالية بالإضافة لإعتماد مباديء الشفافية والمحاسبة ومكافحة الفساد.

إذاً أخلص إلى القول أن التعاون مع مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولى والإستفادة من مساعداتهما لا ينبغي أن يُعتبر تكريساً للهيمنة الأجنبية أو رهناً لموارد البلاد للخارج؛ فلدينا من الكفاءات وأصحاب الخبرة الإقتصادية من هم قادرين على العمل “بجدارة وندية واقتدار” مع المؤسسات الدولية والوصول للبرامج التي تُفيد البلاد وتُحافظ على مواردها وسيادتها وتُتيح لهذا الشعب الكريم الإستفادة من خيرات بلاده والتمتُع بها.
وأطرح هنا سؤالاً، إذا كانت البلاد ستستدين حتماً من جهات خارجية (دولاً كانت أم بنوكاً ودائنين تجاريين) فلماذا لا تتعاون مع المؤسسات المالية الدولية المتخصصة والتي يمكنها توفير المشورة الاقتصادية والدعم الفني والتقني خاصة أننا نعلم أهمية الحصول على التكنلوجيا الغربية والأمريكية في عالم أصبح كل شيء فيه يعتمد على التقنية الحديثة؛ ودوننا روسيا الدولة العظمى الثانية في العالم وما تُعانيه حالياً من صعوبات في الحصول على الأنظمة التقنية الحديثة والرقائق الإلكترونية أو ما يُعرف ب “أشباه الموصلات”
Semiconductors
التي تدخل في صناعة الأجهزة الإلكترونية للطائرات والسيارات والكمبيوترات ووسائل الإتصال والأجهزة المنزلية والأسلحة وغيرها؛ وذلك بفعل العقوبات المفروضة عليها بسبب حربها على أوكرانيا؛ لذلك لابد من الإندماج في المجتمع الدولي والإستفادة من الشراكات المثمرة مع جميع الدول والمؤسسات المالية الدولية؛ هذا فضلاً عن أن الإختلالات في إقتصاد البلاد مزمنة ومتوارثة ولن تُجدي معها الحلول المجزأة؛ ومع توفر الجهود المحلية لابد من التعاون مع الخارج لتطوير بنية الإقتصاد وتحديثها.

المخططون الإقتصاديون في بلادنا هم الأقدر والأجدر بتحديد جدوى التعاون مع المؤسسات المالية الدولية من عدمه، ولا ينبغي إقحام الشعارات السياسية في هذا الموضوع؛ ولا أقلل هنا، بالطبع، من التأثيرات السياسية في هذا الجانب.

ختاماً .. فالتعاون مع المؤسسات المالية الدولية والحصول على دعمها المالي والفني لا يُلغي الدور الداخلي في استنهاض الموارد والجهود واستغلالهما بشكل سليم، لأن الدعم الخارجي ينبغي أن يكون عاملاً مساعداً في تحريك الإقتصاد وإحداث النهضة الإقتصادية المطلوبة، إذ لا يُعتبر الدعم الخارجي وحده كافياً ولابد من تكامُل الادوار وتفعيل وتعزيز دور القطاع الخاص في عملية التنمية، وهو ما أكدتُ عليه في خاتمة مقالي السابق حينما ذكرتُ أن “الشق الداخلي” يقع عليه دور أساسي ولا غنى عنه لإنجاح المهمة.🔹

صحيفة الانتباهة