عثمان ميرغني يكتب.. هل صحيح.. “بارقة أمل”
الآلية الثلاثية الدولية في السودان، التي تتكون من الأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي، ومنظمة إيقاد، اختارت قالب المقال الصحفي التحليلي لتخاطب الشعب السوداني بآخر مستجدات الوساطة التي ترعاها بين الفرقاء السودانيين.
المقال الثلاثي صدر، يوم الخميس الفائت، تحت عنوان “بارقة أمل سياسي”، خلاصته أن المكون العسكري في السودان سلّم الآلية الثلاثية قبل أسبوعين (وثيقة تتضمن تعليقاتهم وتعديلاتهم على مسودة الوثيقة الدستورية التي أعدتها اللجنة التسييرية لنقابة المحامين السودانيين، تعكس هذه التعديلات تفاهمات أساسية تم التوصل إليها بين العسكريين ومُحاوريهم من قوى الحرية والتغيير)، بحسب ما ورد في المقال الثلاثي، الذي حدد أيضًا طبيعة التعديلات التي أدخلها المكون العسكري (لا يريد المكون العسكري أن يتدخّل مدنيون غير منتخبين في شؤون الجيش خلال المرحلة الانتقالية).
وبناءً على ما توصل إليه التوافق في التفاهمات بين القيادة العسكرية وقوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي- طلب الطرفان من الآلية الثلاثية الشروع بتيسير عملية سياسية جديدة.
وبالفعل، بدأت الآلية الثلاثية سلسلة لقاءات ذات صفة ثنائية، بمعنى أنها بين الآلية وكل طرف سياسي على حدة، لتكوين توافق سياسي يسمح بالبدء بتشكيل الهياكل الدستورية وعلى رأسها مجلس السيادة الانتقالي، ومجلس الوزراء الانتقالي.
والهدف الأساس من السرد التحليلي الذي صدر من الآلية الثلاثية هو ضخ التفاؤل على المستوى الشعبي، بعد أن تسلل اليأس إلى الجميع في ظل تردي صارخ للأحوال الاقتصادية والأمنية في البلاد، وكأني بالوساطة الدولية تقول للشعب السوداني اصبروا فقد نضجت الثمرة المنتظرة.
فهل صحيح أن الثمرة نضجت، وحان قِطَّافها؟ وهل فعلًا هناك “بارقة أمل سياسي”؟
الإجابة تتوقف على الغرض منها، فإن كان مطلوبًا الانخراط في عملية “بث الأمل السياسي” فهي ستكون على شاكلة التبشير بنصر قريب تنفرج فيه أسارير الأزمة السياسية السودانية، وتنهي عذابات الشعب الذي أنجز ثورة عظيمة كان يرجو أن تكون “بارقة أمل” لحياة جديدة، فتحولت إلى مواجهة جديد سكب فيها من الدماء أضعاف ما احتاجته الثورة ضد النظام القديم.
أمّا إن كان المطلوب من الإجابة أن يقف الشعب السوداني شاهدًا حقيقيًا على ما يجري خلف الكواليس، فبالتأكيد ستكون الإجابة الصادمة أن “بارقة الأمل السياسي” لا تزال محطة في طريق قطار لم يتحرك بعد.
ولتبيين حيثيات هذه الخلاصة، فلننظر إلى عبارة “منذ أسبوعين” التي بدأ بها مقال الآلية الثلاثية، مشيرة إلى تاريخ استلام الآلية الثلاثية لرد القيادة العسكرية..
“أسبوعان” وقت ثمين لمريض في العناية المكثفة ينتظر “بارقة أمل” للحياة، خاصة أن ما تحقق حتى الآن هو مجرد “تفاهمات” بين طرفين فقط هما القيادة العسكرية وقوى الحرية والتغيير، بينما تتوقع الآلية الثلاثية أن تبدأ “بعد أيام” لقاءات مع القوى السياسية الأخرى لتيسير عملية سياسية تستوعب أكبر قدر من الأطراف السودانية.
بعبارة أخرى، أن كل ما تحقق حتى الآن هو مجرد “تفاهمات” بين طرفين لم تكتمل ملامحها لتتحول إلى اتفاق، في انتظار أن تتسع هذه التفاهمات لتشمل بقية الأطراف السودانية، فإذا كان مجرد “تفاهمات” بين طرفين فقط احتاجت لكل هذه الفترة الطويلة، فكم من الزمن يتطلب إكمال الشوط باستكمال التفاهمات مع بقية الأطراف؟
من الواضح بذلك أن العملية السياسية هنا أصبحت بين طرفين لا ثالث لهما، الأول هو كل المكونات المدنية والعسكرية السودانية المتصارعة، والثاني هو الزمن.
ففي الوقت الذي تجري فيه هذه العملية السياسية بلغت الأوضاع الاقتصادية المؤثرة على المواطن حدًا لا يُطاق، وكثير من الأسر السودانية باتت لا تتناول إلا نصف وجبة في اليوم، وملايين من التلاميذ هجروا المدارس بعد أن عجزت أسرهم عن توفير أدنى مقومات الاستمرار في التعليم، والتفلتات الأمنية تضرب مختلف ولايات السودان ليضاف لكل ذلك انتشار واسع لحُمَّى “الضنك” القاتلة في ولاية شمال كردفان حيث يموت العشرات، بينما تعجز الحكومة عن الإيفاء بأدنى المطلوبات لإنقاذهم من الوباء الفتاك.
قد تنجح العملية السياسية، لكن بعد فوات الأوان، فتكون الآلية الثلاثية مثل الطبيب الذي يُعلن أن العملية الجراحية نجحت، لكن المريض مات!
الخطوة التالية التي تبدأ بعد توافق القوى المدنية والعسكرية على نص نهائي لدستور نقابة المحامين هي الشروع في تشكيل الهياكل الدستورية، بالتحديد اختيار رئيسيْ مجلسي السيادة والوزراء، ثم بقية وزراء الحكومة المدنية، ثم المجلس التشريعي “البرلمان” والمفوضيات، ورئيس القضاء، ورئيس النيابة العامة، ورئيس وأعضاء المحكمة الدستورية.
فكم تستغرق هذه المهام المحفوفة بكثير من الخلافات التي يرتفع سعيرها خاصة عندما يتعلق الأمر بالكراسي والمناصب، وأكثر التوقعات تفاؤلًا لن يكون أقل من 6 أشهر كاملة، فهل تنتظر الأزمة السودانية العاصفة كل هذا الزمن؟ هل يتحمل المريض في العناية المكثفة كل هذا الزمن؟
وغض الطرف عن عامل الزمن على أهميته، فهل هناك ما يكفي من الضمانات لنجاح هذه العملية السياسية في نهاية المطاف؟
الواقع أن المتربصين بالعملية السياسية لا يمكن التقليل من شأنهم، فعلاوة على الحزب الشيوعي، وتحالف قوى التغيير الجذري الشامل، والنظام القديم ومَن يتحالفون معه من الإدارات الأهلية، فإن المستفيدين من استمرار الأزمة السياسية منتشرون حتى داخل أروقة الأحزاب، بما فيها التي قد توافق على مسودة دستور نقابة المحامين، وإذا كان ممكنًا التهوين من قدراتهم فليس من الحكمة الاستهانة بقدرتهم على التعويق.
الخطأ المنهجي الذي وقعت فيه العملية السياسية التي تيسرها الآلية الثلاثية أنها أغفلت ترتيب الأولويات، فوضعت الوصول إلى توافق على مشروع الدستور المقدم من نقابة المحامين في البداية ثم إكمال المؤسسات بعد توافق القوى السياسية على المسودة الدستورية، فماذا تبقى للمجلس التشريعي حال اختياره لينظر فيه؟ بل وما مصير مسودة دستور نقابة المحامين إذا أبطلها المجلس التشريعي من أول جلسة؟ وهذا وارد وفق حسابات المكونات المقترحة لتشكيل المجلس.
ألم يكن الأجدر التوافق على “إعلان سياسي” – بدلًا من دستور نقابة المحامين- ليحقق الاتفاق على تشكيل الهياكل الدستورية التي تتولى بعد ذلك صياغة النصوص الدستورية والقوانين المطلوبة.
من الواضح أن كامل العملية السياسية مقلوبة، مثل مَنْ يسير على يديه وأرجله إلى أعلى، كم خطوة يستطيع المشي؟
إرم نيوز