عثمان ميرغني

اتفاق إطاري.. ما الذي تبدل؟


لا تفتأ القوى السياسية السودانية تقدم كل يوم دليلًا قاطعًا على قِصر النظر وهزال التجربة، مما يعرض مستقبل الشعب السوداني لخطر حقيقي جراء غياب القيادة البصيرة الراشدة.

ففي الأربعاء الفائت، 16 نوفمبر 2022 وعبر مؤتمر صحفي مشهود بدار حزب الأمة القومي في أمدرمان، أعلنت قوى الحرية والتغيير –المجلس المركزي- التوصل إلى “اتفاق إطاري” مع المكون العسكري، يكتمل التوقيع عليه خلال أسبوع، مع إرجاء 4 بنود أساسية لمزيد من التشاور مع شركاء سياسيين وأصحاب المصلحة.

بنود الاتفاق الإطاري هي بالتحديد؛ الاتفاق على رئيس وأعضاء مجلس السيادة من المدنيين، ورئيس وأعضاء مجلس الوزراء من المدنيين، وتشكيل المجلس التشريعي من المدنيين، ومجلس الدفاع والأمن من قادة القوات النظامية المختلفة، فيصبح السؤال الذي يرفع حاجب الدهشة، وهل كانت هذه البنود محل خلاف، أساسًا؟

في يوم 4 يوليو 2022 الفائت وفي البيان الشهير الذي استغرقت تلاوته 3 دقائق فقط عبر الإذاعة والتلفزيون الرسميين بالسودان، أعلن الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي والقائد العام للقوات المسلحة السودانية، التزام المؤسسة العسكرية بالخروج تمامًا من السلطة والملعب السياسي وتسليم الحكم كاملًا في المستويات كافة للمدنيين، على أن ينحصر عمل المكون العسكري في “المجلس الأعلى للقوات المسلحة والدعم السريع”.

ولتأكد الالتزام، أصدر البرهان قرارًا بحل المكون المدني في مجلس السيادة انتظار لتوافق المدنيين على مجلس سيادة مدني بالكامل بموجبه يغادر المكون العسكري القصر الجمهوري إلى “الثكنات” في القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية.

قوى الحرية والتغيير ردت على بيان البرهان في اليوم التالي مباشرة بالتحديد، 5 يوليو 2022، على لسان المهندس عمر الدقير، رئيس حزب المؤتمر السوداني والقيادي بالحرية والتغيير، فوصف بيان البرهان بـ”المناورة وتراجع تكتكي تحت ضغط الجماهير”..

وكان واضحًا أن رد قوى الحرية والتغيير يعول على حركة الاعتصامات الجماهيرية التي بدأت قوية في بعض الساحات العامة مثل ميدان الجودة بالخرطوم والأهلية في أمدرمان بعد التظاهرات الحاشدة في الذكرى الثالثة لمواكب، 30 يونيو 2019، التي شكلت منحنى رئيسًا استعاد جذوة الثورة بعد أن كادت تطفؤها مجزرة ساحة الاعتصام، في 3 يونيو 2019.

كانت قوى الحرية والتغيير تتعلل بأن المكون العسكري مراوغ و غير موثوق به، وأنه يستبطن فكرة تكوين حكومة مدني ضعيفة ليحكم بها البلاد من وراء حجاب، وأن المكون العسكري إذ يخرج من الحكم سيأخذ معه وزارة الخارجية وبنك السودان.

فهل اتضح الآن – بعد 5 أشهر وعلى بعد أيام قلائل من توقيع اتفاق إطاري – أن المكون العسكري أهلٌ للثقة وأنه لا يرغب بحكومة ضعيفة ولن يأخذ معه وزارة الخارجية وبنك السودان؟ ما الذي تبدل؟

واحد من أكبر عيوب العمل السياسي في السودان أنه لا يكثرت لـ”التكاليف”، فالسياسة مثل المحاسبة فيها “حسابات تكاليف”، فلا يمكن افتراض أن أنهر الدماء التي تراق، والآلاف الذين بُترت أطرافهم أو أصيبوا بعاهات مستديمة من الشباب الثائر في الشارع، ليسوا جزءًا من حسابات القرار السياسي، هنا يفقد العمل السياسي كل حيثياته الأخلاقية ويستوي مع الجريمة في ميزان واحد.

كل أسرة تفقد ابنها، أو شاب يفقد عينه أو قدمه أو يده هو رقم باهظ يجب أن يوضع في حسابات القرار السياسي.

عندما ترفض الحرية والتغيير ما قُدم لها مجانًا، في يوليو الماضي، لتوافق على أقل منه بكثير بعد 5 أشهر دون قلق على حجم الخسارة البشرية جراء تأخر القرار فإن ذلك يهزم الأمل في إدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية بسلام.

ولا يقف الأمر عند هذا؛ فالاتفاق الإطاري الذي يروج له الآن في البيانات الرسمية، لم يكن أبدًا في خريطة الطريق عندما بدأ الحديث عن التسوية السياسية؛ ففي يوليو الماضي بعد رفض قوى الحرية والتغيير بيان البرهان الذي التزم فيه بالخروج من الملعب السياسي والحكم أعلنت قوى الحرية والتغيير انخرطها في صياغة “وثيقة دستورية” بديلة تصلح لإكمال ما تبقى من الفترة الانتقالية، ولمزيد من إبراز الجدية حُدد مدى أسبوعين فقط لتوقيع الميثاق بعد استكمال المشاورات مع المكونات السياسية الأخرى.

ومضت مهلة الأسبوعين ولم يخرج للعلن شيء، فمددت الحرية والتغيير المهلة لأسبوعين آخرين بل ولتأكيد الجدية أعلن الأستاذ محمد الفكي سليمان، عضو السيادة الأسبق، عن تشكيل الحكومة بعد أسبوعين أيضًا.

و(مرت الأيام كالخيال أحلام) ولم تصدر الوثيقة الدستورية أو تشكل الحكومة ليطل فجأة ودون أية مقدمات مولود جديد هو دستور نقابة المحامين.

ولم يصدر أي بيان رسمي من الحرية والتغيير يشرح أين اختفت الوثيقة الدستورية التي كان ينتظر ميلادها قبل أكثر من شهرين من الإعلان عن وثيقة نقابة المحامين، وأصبحت وثيقة نقابة المحامين هي محور الجدل ونسى الجميع كل ما ورد في البيانات السابقة للحرية والتغيير.

الآن، سكت الكلام المباح عن دستور نقابة المحامين وظهرت عبارة “الاتفاق الاطاري”، وغدًا سينسى الجميع هذا الاتفاق، وينبت في صحراء السياسة السودانية مشروع جديد لا يهم ما هو اسمه أو رسمه.

خلاصة مثل هذه اللعبة السياسية أنها تضرب بقوة مستقبل ما تبقى من الفترة الانتقالية، فبدلًا من خروج كامل للمؤسسة العسكرية من الحكم والسياسية ستظهر أنصاف الحلول التي تستعيد الشراكة ولو بشكل جديد.

الأوفق هو إعادة ترتيب الأولويات؛ فالسودان الآن يعاني من عزلة دولية متصاعدة وأزمة اقتصادية لم تعد مجرد مؤشرات تُقرأ في النشرات الاقتصادية بل دخلت كل بيت في السودان وهزت أركان الأسرة مثل تسونامي كبير، ولو كان للساسة صبر على الحال فإن لسان حال المواطن السوداني (إنني أعطيت ما استبقيت شيئًا) بعد أن بلغ الأمر بملايين الأسر السودانية إخراج أبنائها من التعليم، لا عجزًا عن دفع الرسوم فحسب بل مجرد توفير تكلفة النقل من البيت إلى المدرسة.

من الحكمة إدراك أن تكوين حكومة مدينة لاستلام الحكم هو الأولوية التي لا يجب أن تنتظر، ثم بعد ذلك سيجد الساسة متسعا من الوقت للاتفاق والاختلاف بين المكونات المدنية في صياغة الوثيقة الدستورية، ثم تتعافى البلاد في علاقاتها مع المجتمع الدولي، ويستعيد الاقتصاد عافيته، ويخرج المواطن من عنق الزجاجة الذي يكابده.

عثمان ميرغني
إرم نيوز