رأي ومقالات

مكي المغربي: أم دلدوم إقتصادية!


أتوقع “أم دلدوم” تضرب اقتصاد السودان في حالة الإستعجال أو الإستهانة بأن تغيير د. جبريل إبراهيم لا يؤثر، وأنه مجرد تغيير شخص بشخص جديد ومستقل لديه سيرة ذاتية جيدة، في ملف بلاستيكي ملون وفاخر.
أم دلدوم هي الضربة القاسية جدا في منتصف الظهر، ومن عيوبها أن المضروب لا يستطيع فركها، ولو كان في يده شيء سيسقط حتما، وهي الضربة المحببة للهمباتة رحيمي القلب.
هذا الحديث لم يقله شخص من جانب جبريل أو الحركات المسلحة أو دارفور، قاله شخص من عمق المجتمع والتغيير، إداري وإقتصادي في شركة خاصة، من الجيل الجديد، ومن مرتادي إعتصام القيادة.
ويتحدث بالتفاصيل أن ضرائب الدخل الشخصي في السودان أكبر من ضرائب أرباح الشركات.
هذا يعني أن صاحب الوظيفة في السودان أنفع للحكومة من صاحب البزنس، وهذا يؤكد أن توجه وزارة المالية في اصلاح هذا الخلل توجه اسعافي وإن كان طعمه مرا.
ويتحدث صديقي أيضا عن احكام جبريل قبضته على ألاعيب “الوراقة” والشركات الوهمية، وأن جبريل نجح لأنه يعرف اقتصاد الظل واقتصاد الشمس، و”الرقراق”.
دعونا نناقش الإتجاه المعاكس، ولنفترض أن جبريل وزير سيء، ودعونا نمارس المنهج الإختزالي المحبب لدى السودانيين، وهو إختزال الشر كل الشر في عامل واحد، وبعد ذلك الإتيان بشخص بدون مواصفات معيارية سوى أنه نقيض “الشرير” الذي تمت عملية الإختزال في شخصه، وهو جبريل في هذه الحالة.
جيد جدا، وافقنا، نريد “نقيض جبريل”، وسيكون كالاتي:
1/ وزير، لا يتحمل الوقوف أمام “وش المدفع” ويتهرب من إتخاد قرار ما لم توافق عليه الحاضنة والمحضونين، أي أن القرار يخرج من بين “الأحضان السياسية” وليس من وزارة المالية، ومن حكومة تتحمل مسئوليتها.
2/ وزير، يبحث عن تسوية سياسية بين الشيوعيين والبنك الدولي، يفكر في إقتصاد هجين لا هو اشتراكي ولا اقتصاد سوق، اقتصاد يرضي الجميع، بما في ذلك عبد الواحد محمد نور.
3/ وزير، يتراجع عن توسيع المظلة الضريبية بسبب اضراب سوق، أو صف دكاكين، في مدينة في السودان ضمن 150 مدينة مسجلة ومعروفة في السجل المدني الإحصائي.
4/ وزير، لا يخرج في مؤتمر صحفي إلا إذا ضمن أن مدير الأمن على يمينه، ومدير الشرطة على يساره، ودوشكات الجيش والدعم السريع بالخارج، وياخذ منهم ضمانات علنية أمام الجماهير بقمع المتظاهرين المطالبين باعادة الدعم واقالة وزير المالية، لأن وزارة المالية لن تتحمل المسئولية وحدها.
5/ وزير، يغضب لأنه يتم تحميله الوزر أمام الشعب من السياسات القاسية فيقرر أن يداهن الشعب بنفخ المرتبات قبل أن يأخذ حقيبته وجوازه الأجنبي ويغادر، تاركا الحكومة في “حيص بيص”.

أطيحوا بجبريل وعينوا نقيضه ليكون بردا وسلاما على الشعب السوداني.
عندها، ستعلمون أن ما قاله صديقي عن “أم دلدوم” التي ستضرب الإقتصاد السوداني في ظهره.
قيل لي آخر كوارث جبريل هي رفع الدعم عن الدواء، قلت لهم هل هو رفع الدعم أم توسيع مظلة التأمين الصحي ليعلم الشعب السوداني أن الدواء في الصيدليات بسعره الحقيقي، وليس “مكسور” وتستفيد منه ثلاث دول مجاورة.
وعندما يكون الدواء بسعره الحقيقي ويصل للمريض السوداني عبر التأمين الصحي الوطني بربع القيمة، وللمريض الأجنبي المقيم شرعيا عبر التأمين الصحي التجاري، ما هي المشكلة إذا؟ يمكن -عبر وزارة الداخلية- أن يتم توفيق أوضاع الأجنبي اللاجيء لتدفع الأمم المتحدة مشاركتها عبر وكالة اللاجئين بدلا من اطعام السياسيين والناشطين سندوتشات بيرقر في “أوزون” مقابل الحديث عن تفكيك الجيش واعادة بنائه.

قبل التفكير في ترديد محفوظات مكررة حول حكومة “المستقلين” لارضاء نخب سياسية وديبلوماسية محدودة، هي أصلا غير متأثرة بأسعار الدواء ولا الوقود، والكهرباء، وأمام بيوتها وسفاراتها مولدات ضخمة تزمجر طوال اليوم، قبل هذا دعونا نحلل الوضع الإقتصادي السوداني.
الخطوة الأولى: الحقيقة التي أمامنا والتي اتضح أنها لا تتأثر بالتغيرات السياسية ولا الثورية، هي أن هنالك دولة اسمها السودان دخلت بغير رجعة في سياسات التحرير الإقتصادي كاملة غير منقوصة.
سياسات بدئها النظام السابق في عهد عبد الرحيم حمدي، واستمرت في عهد الثورة على يد حمدوك والبدوي لا يهم، ظن البعض أو توهم أن الثورة لا يجب ألا تستمر في ذات الإتجاه، والأفضل أن ترتد للإشتراكية، ثم تراجع إشتراكيو قحت بعد الفشل أو أذعنوا أن الإرتداد عن سياسة التحرير الإقتصادي مستحيل، أيضا غير مهم.
انا شخصيا توقعت هذا من اليوم الأول وكتبته في اصدارات محلية وأجنبية.
المهم حقا، هو أن الهوية الإقتصادية السودانية تم حسمها، وأي نقاش حولها بعد هذا “طق حنك”.
يجب أن يرضى الجميع بهذا الواقع ليكتشفوا سويا وسائل التطبيق، حتى لو قالوا مثلما قال عبد الله بن سلول “أن هذا أمر قد توجه” ثم أعلن إسلامه، فإن المحصلة واحدة، يجب أن نطبق هذا السياسة، نفاقا أو صدقا.
الخطوة الثانية: هل تطبيق سياسة التحرير الإقتصادي تم بطريقة مثالية في كل الدول التي تحولت إليها بعد كثير تخبط وتردد؟ الأجابة قطعا لا.
تطبيق هذا السياسة لديه آثار سلبية جانبية عديدة، ولكن كلها مجتمعة لا تساوي أثر سلبي واحد من الارتداد على هذه السياسة.
في هذه النقطة لا تستمعوا لأي “هبنقة اقتصادي” وليس “خبير اقتصادي” يتحدث عن نموذج دول صغيرة محدودة المشاكل والتعداد تستطيع أن تتدخل فيها الحكومة بالدعم، ولديها نظام هجين أو تعاوني مثل النرويج.
الخطوة الثالثة: الآن، توجد سياسات مستقرة، ووزير فاعل، وتحسن في إدارة سعر الصرف، وهذا تم ويتم بقرارات مريرة وصعبة وقاسية، لا يتحمل مسئوليتها أحد غير وزير المالية فقط، قرارات تنكرها قحت، وتتمسح في الدول التي تقف خلف المؤسسات الدولية التي اتفقت مع السودان على القرارات، والوزير يعرف هذه “الخيانات” -من جميع الاطراف والمكونات- ومبتسم ومستمر في التطبيق المهني الصارم.
أي مساس بهذا الوضع، أي أوهام أن الآثار السلبية يمكن تحميلها لجبريل وتذهب به غير مأسوفا عليه، ستكون حيلة مفضوحة، جربها النظام السابق عشرات المرات، وجربها حمدوك عندما أطاح بالبدوي، وهذه هي النتيجة.

مكي المغربي