عثمان ميرغني

عودة الميرغني.. عودة الطائفية


السيد محمد عثمان الميرغني، زعيم أكبر طائفة سياسية في السودان، رجع إلى البلاد قبل أيام من مهجره الاختياري في القاهرة التي ظل مستعصماً بها زهاء 9 سنوات متواصلة، لم يفكر خلالها في العودة، رغم قِصر المسافة بين البلدين الشقيقين.

وعند وصوله مطار الخرطوم، وقبل أن يطل من باب الطائرة، كانت عاصفة كاسحة تجتاح وسائط التواصل الاجتماعي من الغاضبين، لكون العودة ترجح ميزان السلطة العسكرية الحالية بإضافة حزب كبير بجماهيرية واسعة للتحالف المتناصر بالعسكريين..

وكالعادة، لم تتوقف حملة الغضب عند حدودها السياسية الموضوعية، بل تجاوزت كل الخطوط الحمراء وأوسعت الرجل الوقور شتماً وسباباً واستهزاء، تكيل له بلا حساب بمكيال حملات الكراهية المجحفة، لدرجة أن بعض النُخب المستنيرة طالبوا بفحص طبي للحالة العقلية لزعيم الحزب الاتحادي الديموقراطي للتأكد من سلامة قراراته واختياراته السياسية.

هذا المشهد السياسي الذي شغل السودان طوال الأسبوع الماضي، يكشف عمق الأزمة السياسية في السودان، وجذورها الضاربة في التاريخ منذ مرحلة التكوين الأولى للدولة السودانية الحديثة ما بعد الاستقلال.

السيد الميرغني كان يخلد للراحة في القاهرة بعيداً عن خلافاتها، مستنكفاً الخوض في وحلها، ولم يكن يرغب في العودة طالما غبار معاركها يعلو في السماء، لكن الوضع في البلاد تفاقم ووصل مرحلة اضطرته للعودة وهو كاره لها، مجبر غير مختار..

الميرغني كان يخلد للراحة في القاهرة بعيداً عن خلافاتها، مستنكفاً الخوض في وحلها، ولم يكن يرغب في العودة طالما غبار معاركها يعلو في السماء
فيصبح السؤال المُر الأليم، بعد أكثر من 66 سنة منذ استقلال السودان، حينما كانت بعض النخب المستنيرة والأحزاب الحديثة آنئذ ترفع شعار (لا قداسة في السياسة) و(الكهنوت مصيره الموت) لتناهض الطائفية السياسية وتقاوم نفوذ الزعامات التقليدية، هل دار الزمان لتستجدي النُخب ذاتها الطائفية لتعود لإنقاذ البلاد من الحاضر الملبد بالغيوم والرعود والصواعق، على رأي الشاعر أبي الطيب المتنبي: (ومن نكد الدنيا على الحُر أن يرى عدوا له ما من صداقته بُد).

في اليوم الأول من ديسمبر عام 1955، أي قبيل استقلال السودان بـ 10 أيام فقط، شهد السودان واقعة غريبة أطلقوا عليها سياسياً (لقاء السيدين)، وهو اجتماع نادر بين السيد علي الميرغني زعيم الطائفة الختمية، والسيد عبد الرحمن المهدي زعيم طائفة الأنصار..

كان بين الرجلين ما صنع الحداد، تنافس طائفي سياسي مرير وصل مرحلة العداء المستحكم، لكن عدواً مشتركاً اضطرهما للقاء، فالنُخب السياسية الشابة باتت تظهر العداء للطائفية وتجتهد في رفع الوعي الشعبي ليثور وينتفض ضد النفوذ الطائفي، وكان يقود تيار الاستنارة السيد إسماعيل الأزهري الذي فاز –رغم أنف السيدين- وحزبه الوطني الاتحادي بأول انتخابات بالسودان في نوفمبر 1953 وأصبح أول رئيس وزراء في تاريخ البلاد.

لشعور السيدين بالخطر في زخم الشعارات التي تدعو لدحر الطائفية، اضطرا لتجاوز عداواتهما التاريخية ليجتمعا في “لقاء السيدين” الذي صدر بعده بيان جاء فيه “كما نأمل التقاء جميع الأحزاب في الحال وقيام حكومة قومية تكون صمام الأمان وتستطيع إنقاذ البلاد من كل خطر متوقع”.

كانت حُجة تكوين “حكومة قومية” حصان طروادة الذي دخل به السيدان إلى الملعب السياسي ونجحا في الانقضاض على المجموعة التي تطالب بفصل (السياسة عن القداسة)، قداسة الطائفية.

في اليوم الأول من ديسمبر عام 1955، شهد السودان واقعة غريبة أطلقوا عليها سياسياً (لقاء السيدين)، وهو اجتماع نادر بين السيد علي الميرغني زعيم الطائفة الختمية، والسيد عبد الرحمن المهدي زعيم طائفة الأنصار..
لم يكن أحد يظن أن هذه المعركة التاريخية بين السياسة والطائفية ستستمر أكثر من الجيل الذي كان على خشبة المسرح حينها، جيل الاستقلال، وأنها لن تنتقل إلى أجيال الخَلَف، بحكم النمو التراكمي للمعرفة والوعي.

لكن الهبوط الاضطراري للسيد الميرغني بمطار الخرطوم الأسبوع الماضي، محمولاً على أجنحة سياسية متصارعة تخوض حرباً شعواء في سبيل الاستئثار بالسلطة، أكد أن “لقاء السيدين” لا يزال بعد كل هذا التاريخ يحكم السودان، ولو من وراء حجاب.

حزب السيد الميرغني، الحزب الاتحادي الديموقراطي، انقسم بين تيارين، ابنه محمد الحسن الميرغني انحاز إلى قوى الحرية والتغيير/ المجلس المركزي، وابنه الآخر جعفر الصادق الميرغني أصبح رئيساً للكتلة الديموقراطية التي تنافس المجموعة الأخرى.

عودة الميرغني الأب ستحسم الخلاف لصالح مجموعة “الكتلة الديموقراطية”، بما يعني دعم السلطة العسكرية الحاكمة القريبة من هذه الكتلة.

عثمان ميرغني
السودان.. ما تأثير عودة الميرغني على المشهد السياسي؟
في ظل فشل الحرية والتغيير/ المجلس المركزي في توقيع اتفاق نهائي مع المكون العسكري، ستنفخ الرياح في أشرعة “لقاء السيدين”، فيتحالف الحزب الاتحادي الديموقراطي مع حزب الأمة القومي ليشكلا تياراً سياسياً كاسحاً يرث السلطة من المكون العسكري.

صحيح أن تياراً في حزب الأمة يناهض هذا التوجه، يمثله الواثق البرير الأمين العام لحزب الأمة القومي وصِديّق الصادق المهدي، لكنهما سيجدان صعوبة بالغة في الوقوف أمام “لقاء طائفي” أكثر من كونه سياسيا، بدأ بترتيب قبل عدة أشهر بلقاءات بين قيادات طائفتي الختمية والأنصار، وكلتا الطائفتان مفاتيحهما في بيتي المهدي والميرغني، وليس دور الحزبين الاتحادي والأمة.

عندما اشتعلت ثورة ديسمبر 2018 أطلقوا عليها “ثورة الوعي”، لكونها تمثل طموحات الشباب والأجيال القادمة، لكن، والثورة الآن تتجاوز 4 سنوات من عمرها، تبدو الصورة على النقيض تماما، العودة إلى أحضان الطائفية السياسية التي قاومها أجداد هذا الجيل قبل سبعة عقود.

ويظل السؤال الحقيقي، لماذا لم يستطع السودان بعد أكثر من 66 سنة منذ الاستقلال الخروج من جلباب الطائفية السياسي، للدرجة التي يصبح فيها الملجأ الاختياري للقوى المستنيرة في الراهن هو الاستعانة بالطائفية واستدعاء السيد محمد عثمان الميرغني مضطرا من مهجره الاختياري بمصر إلى السودان، ليكون آخر العلاج الكي.. الكي بنار الطائفية السياسية.

إرم نيوز