مقالات متنوعة

عادل عسوم يكتب.. أعلى الجمال تغار منا؟!


امتلك إدريس محمد جمّاع رحمه الله ناصية اللغة العربية، كيف لا وهو المشتغل بتدريسها منذ تخرجه، وقد كان من أكثر الشعراء قدرة على تخيّر الكلمات لتصبح كل كلمة الأمثل للتعبير عن مراده في المقطع الشعري، ودونكم سياقه البديع المذهل:
أنت السماء بدت لنا واستعصمت بالبعد عنا!
ياااااه
يالجمال الكلمات، ويالسموّ المبنى والمعنى، هكذا كان حال جماع مع محبوبته، يراها في خياله تغدو وتروح أمام ناظريه بكل بهائها؛ لكنها تبقى عنه بعيدة المنال!…
لماذا ياتُرى؟!
أيكون السبب الفارق الاجتماعي بينهما؟
لا، ليس الأمر كذلك، اذ يسمو شاعرنا بأحاسيسه ليبلغ شأوا عظيما عندما يقول:
أعلى الجمال تغار منّا؟!!!
والغيرة تكون عادة بين متماثلين أو شبه متماثلين، لكنه هنا لا يجعل من نفسه مقابلا لمحبوبته انما يجرّد منها (جمالها) كطرف ثالث، ثم يجعل المقابلة بين عناصر ذاك الجمال الفتّان وشخصه…
هاهو يقول:
هزته منك محاسن
غنى بها لمّـَا تغنَّى
يا شعلةً طافتْ
خواطرنا حَوَالَيْها وطفنا
انست فيكَ قداسةً
ولمستُ إشراقاً وفناً
ونظـُرتُ فـى عينيكِ
آفاقاً وأسراراً ومعنى
رحم الله والدي فقد كان كلما ذُكر جمّاع يقول:
هذا شاعر أبكَى شِعرُه (العقّاد)!
واستطرد يوما وقال:
كنا طلبة في مدرسة المساعدين الطبيين الكائن مبناها داخل مباني كلية غردون،
وقد كان تخرجنا في عام 1956…
قال، حضر ادريس جماع حفل التخرج في معية أحد الزملاء من ابناء الحلفايا، وكان جمّاع حينها معلما في المرحلة الثانوية، وقد بدت عليه بوادر مرضه الأخير من خلال ملبسه وسكونه واسلوب ردوده الحيية على الزملاء، وكانت إحدى فقرات الحفل خاصة بالوالد لالقاء احدى قصائد أحمد شوقي فقال:
إذا بي بأحد الحضور يجهش بكاء، ثم جاء ليقف بجواري، وما ان ختمت القصيدة؛ حتى ارتجل قصيدة يجاري بها قصيدة شوقي!، قال الوالد:
لعل هذا الرجل أنشد أكثر من خمسين بيتا يومها!
كان هذا الشاعر إدريس جماع، ومذ ذاك توثقت العلاقة بين الوالد وجمّاع رحمهما الله.
والشاهد في سوقي لهذه الحادثة قول الوالد رحمه الله:
زرت جمّاع بعد هذه الأمسة بأيام في بيتهم بطلب من المنصة للحصول على القصيدة التي ألقاها، لكنني دهشت عندما رد الراحل بأنه لم يعتد حفظ قصائده!…
وهكذا أضاعت جبلّتنا السودانية المجافية للتوثيق دررا، وأقسم الوالد بأن قصيدة جماع المرتجلة كانت أندى كلمات وأجمل سياقا واوقع موسقة من ابيات شوقي المجاراة!
وأضاف الوالد رحمه الله بأنه يكاد يجزم بأن جُلّ قصائد جمّاع التي وصلتنا كانت أكثر ابياتا، لكنها تناقصت مابين ذواكر الحُفّاظ والتحبير!
وخلال جلسة استماع -من خلال التلفاز- والراحل سيد خليفة يبدع في اداء أغنية (أعلى الجمال تغار منا) سألت الوالد هل حدثكم الراحل جمّاع عن الفتاة التي كتب فيها هذه القصيدة؟
فقال بأنه سأل جماع هذا السؤال فكان رده بأن القصيدة- بل كل قصائده- لم يكتبها في فتاة بعينها!!!
أعدتُ الاستماع إلى كلمات الأغنية مرارا لأجدها تصطرخ بالتعبير عن هوى حقيقي لأنثى بعينها!:
أعلى الجمال تغار منا
ماذا عليك إذا نـظرنا
هى نظرةً تنسى الوقارَ
وتسعدُ الروحَ المعنىّ
دنياى أنت وفـرحتى
ومنى الفؤادِ إذا تَمَنىّ
أنتَ السماءُ بدتْ لـنا
واستعصمتْ بالبعدِ عنا
هلاَّ رحمتَ مـتيما
عصفت به الأشواق وهنا
وهفت به الذكرى فطاف
مع الدجى مغنى فمغنى
هزته منك محاسن
غنى بها لمّـَا تغنَّى
يا شعلةً طافتْ
خواطرنا حَوَالَيْها وطــفنــا
آنـست فيكَ قداسةً
ولمستُ إشراقاً وفناً
ونظرتُ فـى عينيكِ آفاقاً
وأسراراً ومعنى
كلمْ عهوداً فى الصبا
أسألْ عهوداً كيف كـُنا
كمْ باللقا سمحتْ لنا
كمْ بالطهارةِ ظللـتنا
ذهبَ الصبا بعُهودِهِ
ليتَ الطفُوْلةَ عـاودتنا.
وظلت أجابة الوالد تلحُّ عليّ بأن أسائل نفسي هذا السؤال:
هل يمكن لشاعر ما أن ينداح شعرا بهذه الحميمية والصدق البائن في المشاعر؛ دون أن تكون هناك حبيبة بعينها في خاطره ووجدانه؟!
الاجابة عن هذا السؤال كانت تتطلب سبرا لغور اشعار هذا الشفيف، وقد ساعدني الوالد رحمه الله عندما أومأ لي بأبيات أخرى (عميقة المعنى) لشاعرنا النبيل، أقرأوا بالله عليكم هذا الامتاع اللغوي، وجزالة هذا السياق وماحملت عراجينه من معاني ومرادات!:
نمشي علي الدرب الطويل ولا يطيب لنا مدي
إن الحياة بسحرها نغم ونحن لها صدي
من مات فيه جمالها فمقامه فيها سدي
كم عاشق لسعادة ضل الطريق وما اهتدي
هي فيك وهي رضاك عنك ففيم تبحث أبعدا
يااااه
ان جمال السعادة لكامن في وجدان جمّاعنا، لا ينفكُّ عنه سلوكا وشعرا، وحتى علائق اجتماعية…
وهنا مهوى قرط المعني والمبني لدى جمّاع، ولكن كيف لوجدان أن يتصالح ذاك التصالح ثم ينداح للناس بكلّ هذا الأسى والحُزن الدفّاق؟َ!
كم كنت -ولم أزل- يحار عقلي بين يدي أبياته التي تحكي عن حظه العاثر في هذه الدنيا:
إن حظى كدقيق فوق شوك نثروه
ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه
صعب الأمر عليهم ثم قالوا اتركوه
ان من أشقاه ربى كيف أنتم تسعدوه
لان رمنا الاجابة يلزمنا الابحار في ديوانه الأوحد الذي بين يدينا (لحظات باقي)، وحتى هذا الديوان الأوحد ماكان له أن يجمع ويطبع لولا التقاء نفر كريم بالراحل عندما سافر إلى القاهرة للعلاج، فاجتهدوا في الوصول إلى ما وجدوه في دار أهله من قصاصات كتب عليها بعض ابداعه فطبعوه له!
والقارئ لديوانه حظات باقية هذا يشده منذ الوهلة الأولى وهج الحرية التي يكتنف كل كلمة فيه!
فالرجل كان عاشقا للحرية إلى حدّ الترف…
وان كان جماع قد فاته قطار الترف المادي؛ فإنه كان مشبعا بترف الحرية الانسانية في اسمى مراداتها…
الحرية في التعبير عن حب عذري سامي لانثى يراها بعين محب عاشق واله، الحرية دون احتلال بغيض لا يجد في وطنه الاّ بقرة حلوب، يسرق قطنه وذهبه وصمغه وثروته الحيوانية لصالح بني جلدة له هناك من خلف البحار، فالاحساس الداخلي بالحرية يعضده احساس بجمال السعادة في دواخله
بذلك…
لكل ذلك فقد افرد جمّاع لنفسه فضاءات وسوحا ممتدة الافق،
فضاءات جعلها تحتمل كل المشاعر الانسانية التي تتخلل اشعاره الجذلى، وهو دونها باسم الثغر وضّاء المحيا…
قال لي الوالد:
اعتاد جمّاع بأن يلقي علينا القصيدة الحزينة وهو يبتسم!
قصيدة على الجمال تغار منا تكتنفها رؤية فلسفية ريّانة بأدب جم وحياء يرتكز إلى تدين فطري يجمل دواخل شاعرنا…
أعلى الجمال تغار منا؟!
فالخطاب وان بدا لنا مباشرا من جماع إلى محبوبة بعينها، إلا إنه في الواقع يعني خيالها المستصحب لديه، لقد جرد صورتها التي تمثل عنده الجمال في أبهى معانيه ليصوب نظراته الهائمة إلى (الصورة)، ف جماع من فرط تديّنه لا يريد لنظراته أن تصوب مباشرة إلى (شخص) محبوبته كي يراها -هي أيضا- تغار -حتى- على صورتها!
فماذا تراه يفعل؟!
لايملك إلا أن يخاطبها لائما فيقول:
أعلى الجمال تغار منّا؟!
ماذا علينا إذا نظرنا (إلى الصورة)؟!
إذ يكفيه النظر إلى الصورة/الخيال لا الأصل، ف النظر إلى الصورة والخيال ينأى به عن مغبة النظر إليها عيانا!
دنياي أنت وفرحتي
ومنى الفؤاد اذا تمنّى.
يالجمال البوح بين يدي تلك الصورة، ويالابداع تناسق موسيقى الأحرف!
وأشار لي الوالد رحمه الله إلى خواتيم القصيدة وقال:
لقد علمت بأن جمّاع عشعشت في دواخله صورة قريبة له نشآ وتشاركا حراك الطفولة سويا، لكنها توفيت قبل البلوغ ولعلها كانت الموحية له،
وهذه هي خواتيم القصيدة:
كلّمْ عهوداً فى الصبا
أسألْ عهوداً كيف كـُنا
كمْ باللقا سمحتْ لنا
كمْ (بالطهارةِ) ظللـتنا
ذهبَ الصبا بعُهودِهِ
ليتَ الطِفُوْلةَ عاودتنا.
وحتى البيت الأبهى والذي سبق في هذه القصيدة يحمل في ثناياه ذات المعنى:
أنت السماء بدت لنا
واستعصمت بالبعد عنا!
فالسماء دوما تتسق مع الفطرة والنقاء والبهاء، وانها -وان اكتنفتها السحب والأنواء أحيانا- الاّ أنها تعود إلى صفائها ونقائها وبهائها المعلوم، وذاك سمت الطفولة وحالها، ولا أخال الأمر أمر فوارق اجتماعية نأت به عنها كما كتب بعض النقاد، فالرجل سليل أسرة معلومة الأصل والمحتد، فيا لهذا التشبيه العميق،
ولا أخالني قرأت من قبل لشاعر يصف فيه معشوقته بالسماء!
اضاف الوالد رحمه الله بأن جمّاع كان موهوبا أيضاً بملكة الرسم والتلوين،
توحي بذلك صورة يدوية (كبيرة) للوحة الموناليزا رسمها جماع بنفسه حيث يجدها الوالج إلى غرفته مثبتة على الحائط، ذات الموناليزيا بابتسامتها الحيرى التي لا تكاد تجلس الاّ ويتملكك الاعجاب بها ويستبد بك الادهاش لابداع يجده في تفاصيل اللوحة المرسومة بيد جماع، ولديه في ذات الغرفة رسومات أخرى بديعة لزهور في غاية الروعة والجمال، منها زهرة السوسن، وزهرة الشمس، وزهور أخرى بلا أسماء…
وكان لصور وجوه الناس حضور كبير على جدران ذات الغرفة، منها رسم لوجه والدته وجدّته،
وبجوار سريره كانت هناك صورة بديعة لشاب وسيم، ما أن رأى جماع نظرات الاستفهام عنها الاّ وأبان بأنها لصديق عزيز، هو في الأصل قريب له قاسمه نشأة الطفولة والصبا وتوفي غرقا قبل سنوات طويلة، قال ذلك وهو يجفف بكم قميصه دمعتين،
واضاف الوالد:
من يزور جمّاع في بيته يخاله رسام لا شاعر، لكنك إن حادثته تعلم يقينا بأنك تحادث شاعرا وأديبا…
وولج جمّاع إلى داخل الدار ليحضر لي ولمرافقي شيئا من لوازم الضيافة، فنبهني زميلي إلى أوراق مبعثرة على ارضية الغرفة، فنهضت وتناولت ورقة منها فوجدتها لقصيدة (لاميّة) بها مايزيد عن الستين بيتا، أقسم لي الوالد بأنه لم ير هذه القصيدة لاحقا في ديوان جماع.
اللهم اغفر لعبدك ادريس محمد جماع وأفتح له في مرقده بابا من الجنة لايسد، واغفر اللهم لوالدي، وافتح لهما في مرقديهما ابوابا من الجنة لاتسد انك ياربي ولي ذلك والقادر عليه.

صحيفة الانتباهة