مقالات متنوعة

اني أعتذر حبيبة عمري تفشى الخبر


قد لايعلم -سوى أهل الاختصاص من الموسيقيين- بأن هذه الأغنية البديعة قد أضافت للموسيقى السودانية أكتشافا جديدا!
يقال عندما شرع الدكتور كابلي في تلحين هذه الماتعة في ابتدارات الستينيات من القرن الفائت، أحس بحاجته إلى صوت وتر جديد يزيد على صوت الوتر الخامس، فقام في البدء بدوزنة الوتر الخامس على صوت (فا)، لكنه لم يجد ذلك مجزياً وموافقا للذي يوده، فأعاد الدوزنة ليصبح الوتر الخامس مطابقأ لصوت (مِي)، فإذا به يحقق له المراد…
ثم تبعه العديد من واضعي الألحان والعازفين، وكان أول من أخذ بهذه الدوزنة الملحن السوداني المعروف الاستاذ بشير عباس…
وقد أجمع المشتغلون بالتلحين والموسيقى بأن هذه الإضافة قد أتاحت لهم مساحة اكبر للتدرج والوصول إلى أدنى درجات السلم الموسيقي ثم البقاء هناك لفترة اطول من المعهود، حيث يستجيب ذلك للكثير من المساحات اللحنية الدنيا في تراثنا الغنائي الشفوي ويوافق ذلك ويستجيب للمزاج السوداني…
هذه القصيدة تستحق حقا أن تنال شرف هذا الابتدار لما فيها من احتشاد جمالي يجعلها ضمن ماجداتنا من اغنياتنا الخالدة بل في مقدمتها.
لقد كتب الشاعر الملهم -القاضي- الحسين الحسن رحمه الله بإسم حبيب يعتذر لحبيبته بكونه لم يسع يوما أو يرجو أن يذيع خبر حبهما، ولكن تفشى الخبر وذاع وعم القرى والحضر…
تملوا بلاغة الكلمات وهي تتالى كما الدوائر في بحيرة ساكنة حرك أمواهها حجرٌ ألقي في وسطها!
تفشى الخبر…
وذاع…
وعَمّ القرى…
والحضر…
لم يغفل كابلي ذلك، بل أعطاه حقه وهو يلبسها ثوبها اللحني القشيب…
فإذا به وبحُنجرته الملوكية وابداعه المعهود يضيف اليها أبعادا أخرى في الترقي الصوتي من الخفيت في (وذاع) إلى أن يتعالى الصوت رويدا رويدا في (وعم القرى) إلى أن يصل أعلى ذراه في كلمة (والحضر)!…
وتتبعه الكمنجات في ذلك مكملة زخم الامتاع موصلة اياه إلى مداه، ثم تعود بالسياق اللحني إلى ابتدارته الأولى ليواصل كابلي ويقول:
وكنت أقمت عليه الحصون وخبّأته من فضول البشر…
وقبل ان يتملك المستمع الإحساس بأن اللحن يوشك أن يصبح دائريا، اذا بكابلي صاحب العبقرية اللحنية ينحى بالسياق منحى آخر فيفيد من الوتر الخامس ويقول:
وصنعت له من فؤادي المهاد
ووسدته كبدي المنفطر
ومن نور عيني نسجت الدثار
ياااااه
هنا يتداخل ابداع الحسين وكابلي فتحار أيهما الذي يستحق الإشادة والثناء!
شاعرنا الجميل جعل من قلبه مهادا لحبه، بل وسده كبده المنفطر،
وزاد على ذلك بأن صنع له من نور عينيه دثارا ليضمن اخفائه من فضول البشر!…
كيف لا وهو القاضي حيث تؤثر فيه أحاديث الناس إن تفشى الخبر، فماذا عساه يفعل والحب قد ملك منه الفؤاد والروح؟!…
كان يخشى أن تفضحه عيناه المستهامة في حبها وهو الحريص جدا على نفسه وعليها،
فليت عيناه تعلمتا كيف تخفيان الحنين وتواريانه خلف ستار الحذر، فلا تهمسان بشئ منه حتى في أذن النسيم، ولاتوشوشان به لضوء القمر…
ظل على حاله يكابد وقد استبد به الهيام…
واذا بالشوق يغلبه اليها، والحنين الى أيامها يضيّق عليه السوح والفضاءات فلا يكاد يجد لنفسه فكاكا، ليسلم قواد نفسه إلى ذكرى أيامها وينطلق كالمسيّر…
في يوم رقيق النسيم، كثير الغيوم وهو على فراشه يغالب الحمى، سافر بخياله ليجد نفسه هناك في مكان اللقاء، وقف يستشرف أفق الشمس الغاربة فإذا بالصوت الريان بالحياء يتغشى أذنيه ويقتحمه اقتحاما، واذا بقلبه يتصدع بين يدي بكاءها وويحها وهي تعاتبه على تفشي الخبر وشروع الناس في الحديث عنهما، قالت له دامعة بأنه الملام في تفشى الخبر، فتسمرت قدماه وحار كيف يجيب، ولم يعد يسمع من كلماتها شيئا، فجعل يخاطب نفسه ويقول:
وكنت أعلمُ أن العيونَ
تقولُ الكثيرَ المثير الخطر
فعلمتها كيف تخفي الحنين
تواريه خلف ستار الحذر
فما همَسَتْهُ لأذن النسيم
ولا وشوشته لضوء القمر
ولكن برغمي تفشي الخبر
وذاع وعم القري والحضر
ثم يتشجع ويقول:
حبيبة قلبي وهل كان ذنبي
إذا كنت يوما نسيتُ الحذر
وهنا تتداخل الكمنجات بما يشبه العويل ويتداخل معها صوت كابلي وهو يقول:
فصوتك كان يهدهد روحي
ويحملني في جناحٍ أغر
يحلق بي حيث لا أمنياتٍ تخيب
ولا كائناتٍ تمُرْ
وهومت حتي تبدّي أمامي
ظلامٌ رهيب كفيفُ البصر
وقفت عليه أدقُّ الجدارَ
فما لانَ هونا ولم ينشطرْ
فعدتُ تذكرتُ أن هواك
حرامٌ علي قلبي المنكسر
ويتقمص كابلي الحال بكل ما يكتنف المشهد من مشاعر واحاسيس فيبكي حيث يكون البكاء ويختلط ذلك مع نواح الكمنجات فلا تملك الدموع إلا الانهمار من أعين السامعين والمشاهدين…
ويطول المقام بشاعرنا الى أن يرخي الليل سدوله، يسائل نفسه كيف تكون حياته بدونها وقد خرجت من حياته للأبد…
هاهي الدنيا خلاء بلقع، والفضاءات ظلام داكن، والمستقبل أمامه جدار صلد لايسمح بالولوج…
لقد ضاعت منه إلى الأبد، ليته لم ينس الحذر يوما ولات ساعة مندم…
اقرأوها كاملة:
حبيبة عمري تفشي الخبر
وذاع…
وعَمّ… القري والحضر
وكنت أقمت عليه الحصونَ
وخبأتُه من فضولِ البشرْ
صنعت له من فؤادي المهاد
ووسدته كبدي المنفطر
ومن نور عيني نسجت الدثار
ووشيته بنفيس الدرر
وقد كنت أعلمُ أن العيونَ
تقولُ الكثيرَ المثير الخطر
فعلمتها كيف تخفي الحنين
تواريه خلف ستار الحذر
فما همَسَتْهُ لأذن النسيم
ولا وشوشته لضوء القمر
ولكن.. برغمي تفشي الخبر
وذاع وعم القري والحضر
حبيبة قلبي وهل كان ذنبي
إذا كنت يوما نسيتُ الحذر
ففي ذاتِ يومٍ رقيقِ النسيمِ
كثيرِ الغيومِ، قصيرِ العمرْ
ذكرتُ مكانا عزيزا علي
وأنتِ به وأنا والأُخر
ذكرت حديثك ذاك الخجولَ
وصوتُك ينساب منه الخفرْ
تقولين ماذا تقولين ويحي
وهل كنتُ أفهمُ حرفا يمرْ
ولكن برغمي تفشي الخبر
وذاع وعم القري والحضر
تقولين ماذا تقولين ويحي
وهل كنت أفهم حرفا يمر
فصوتك كان يهدهد روحي
ويحملني في جناحٍ أغر
يحلق بي حيث لا أمنياتٍ
تخيب ولا كائناتٍ تمُرْ
وهومت حتي تبدّي أمامي
ظلامٌ رهيب كفيفُ البصر
وقفت عليه أدقُّ الجدارَ
فما لانَ هونا ولم ينشطرْ
فعدتُ تذكرتُ أن هواك
حرامٌ علي قلبي المنكسر
حبيبة قلبي وهل كان ذنبي
إذا كنت يوما نسيتُ الحذر؟

عادل عسوم
صحيفة الانتباهة