عثمان ميرغني

هذا أو سيناريو “اليوم الآخر”

الطبيب يدخل غرفة العمليات، طاقمه الطبي أكمل الاستعداد لإجراء العملية الجراحية الدقيقة، فيمسك بالمقص ويَشُق صدر المريض، ثم يستأذن ويخرج من الغرفة، على أن يعود بعد عطلته السنوية لإكمال العملية الجراحية الدقيقة. وفي مثل هذا الموقف، لن يكون السؤال عن حال قلب المريض بل عقل الطبيب، فالعلة هنا ليست في المعلول بل في الذي أرقده تحت يديه مستسلمًا راجيًا دحر الداء.

هذا هو تصوير الحال الذي يمر به السودان الآن، فبِشِقِ الأنفس وضياع الأرواح الشابة التي قُدِمت مهرًا للوطن خلال تظاهرات الأشهر الأخيرة، وصل الطرفان قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي- والمكون العسكري لاتفاق إطاري هو الخطوة الأولى التي تفتح الباب – أو صدر المريض في العملية الجراحية- وبدلًا من إكمال المطلوب في أقل وقت ممكن لإخراج المريض من غرفة العمليات وليبدأ مرحلة النقاهة، فإذا بالطبيب يترك الصدر مفتوحًا –الإطاري- وينشغل بحملة ملاسنات جديدة قد تطيل الأزمة حتى يقع الفأس في الرأس ولات حين مَنّدم.

النهج الذي يجعل الاتفاق الإطاري وكأنه محطة يتوقف فيها القطار ليس للنظر في بطاقات الركاب الجدد بل وسجلهم الجنائي واللياقة العقلية والطبية، سيؤدي تلقائيًا لإطالة عمر السلطة العسكرية.
الاتفاق السياسي الإطاري الذي توصلت إليه قوى الحرية والتغيير –المجلس المركزي- مع المكون العسكري ثم وَقع عليه أكثر من 40 حزبًا ومنظمة مجتمعية ومهنية، في 5 ديسمبر 2022، في القصر الجمهوري أمام شهود من المجتمع الدولي، كان خطوة أولى نحو ممر ضيق يفضي إلى اتفاق نهائي هو الذي يُكمِل العملية السياسية ويخرج المريض من غرفة العمليات ليبدأ التعافي السياسي بتكوين الحكومة ثم المجلس التشريعي وبقية مؤسسات الحكم، وتدشن البلاد مرحلة استكمال الفترة الانتقالية التي قُدِّر لها سنتان من تاريخ تشكيل الحكومة.

المسافة الفاصلة بين توقيع الاتفاق الإطاري والنهائي هي برزخ بين بقاء أو فناء العملية السياسية، لأن الإطاري لا يعدو أن يكون محض إعلان مبادئ، لا يُنهي الأزمة بل يُعقدها حال وقوفه في المنطقة الوسطى دون الوصول إلى مرحلة الاتفاق النهائي.

وفعلًا هذا ما يحدث الآن، فبعد التوقيع على الاتفاق الإطاري وعِوضًا عن الهرولة بأقصى سرعة نحو النهائي بدأت ملاواة حول من يحق له الالتحاق بوثيقة الاتفاق الإطاري فيوقع عليها لينضم إلى عضوية نادي الاتفاق النهائي.

السيد مبارك الفاضل المهدي رئيس حزب الأمة، عقد مؤتمرًا صحفيًا، يوم السبت 10 ديسمبر 2022، وأعلن تكوين تحالف “ميثاق التراضي الوطني”، ثم فاجأ الجميع بقرار التحالف الجديد التوقيع على الاتفاق السياسي الإطاري.

وبعد يوم واحد، صدر تصريح من بعض قيادات قوى الحرية والتغيير برفض قبول توقيع مبارك الفاضل ومجموعته بدعوى أنها عملية تستهدف “إغراق” الاتفاق بقوى لا تؤمن بالانتقال الديمقراطي.

ثم أعلن دكتور الواثق البرير الأمين العام لحزب الأمة القومي أن قوى الحرية والتغيير تلقت أكثر من 60 طلبًا من مكونات سياسية ومهنية مختلفة ترغب في التوقيع على الاتفاق الإطاري، وأن العمل جارٍ في فحص الطلبات!

هذا النهج الذي يجعل الاتفاق الإطاري وكأنه محطة يتوقف فيها القطار ليس للنظر في بطاقات الركاب الجدد بل وسجلهم الجنائي واللياقة العقلية والطبية، سيؤدي تلقائيًا إلى إطالة عمر السلطة العسكرية التي يفترض أنها قبلت تسليم الحكم حال تكوين الحكومة الجديدة، ولكن كلما تأجل يوم التسليم تزداد الشكوك حول إمكانية الوصول إليه، بنفس نظرية الطبيب والمريض الذي ينتظر إقفال صدره المفتوح في العملية الجراحية.

إذا تأخرت الفرصة الأخيرة أو تعطلت، فلا سبيل سوى سيناريو “اليوم الآخر” على اسم الفيلم الشهير “The other day”.
ولإكمال المشهد، في خطابه بقاعدة “المعاقيل” بنهر النيل قال الفريق أول عبد الفتاح البرهان القائد العام للجيش، إن ركوب جميع القوى السياسية في قطار العملية السياسية شرط لإكمال الاتفاق النهائي وتسليم الحكم للمدنيين، وضبط الصورة أكثر قائلًا: (ينبغي ألا تحاول أية جهة اختطاف هذا الاتفاق لمصلحتها دون الآخرين أو أن تسعى إلى اختطاف السلطة من جديد) وهي إشارة واضحة لقوى الحرية والتغير – المجلس المركزي-.

الأستاذ ياسر عرمان، أحد قيادات الحرية والتغيير ورئيس إحدى القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري، اعتبر حديث البرهان “نكوصًا” عن الاتفاق الإطاري.

وسواء كان خطاب البرهان نكوصًا أو غيره، فالواقع أن الجدال حوله سيهدر مزيدًا من الوقت الحرج لمريض يرقد في غرفة العمليات بصدر مفتوح.

وفي ظل هذه الأرجوحة السياسية، أصدر حزب البعث العربي الاشتراكي “الأصل”، الأربعاء 14 ديسمبر 2022، بيانًا أعلن فيه انسحابه من تحالف قوى الحرية والتغيير، وهي خطوة قد تساعد برفع حرارة حماس المجتمع الدولي للتعجيل بعودة الحكم المدني، ولكنها في الوقت ذاته تخفف من الوزن السياسي لقوى الحرية والتغيير، التي تتآكل مع مرور الأيام وقريبًا سيخرج منها حزب الأمة القومي ليكون آخر مقطع موسيقي في لحن “لن ننسى أيامًا مضت”.

والحال كذلك؛ من الصعوبة بمكان الوصول إلى محطة الاتفاق النهائي في الأفق المنظور، مما يحتم فشلًا مبكرًا للعملية السياسية الراهنة بأضلاعها الثلاثة، الحرية والتغيير، المكون العسكري، الآلية الثلاثية التي تمثل الوساطة بين الطرفين.

وتبقى الفرصة الوحيدة المتاحة لتجنب الانزلاق نحو الحل الصِفّري الحاسم، أن يتكون تحالف مؤقت بقيادة حزبي الأمة القومي والاتحادي الديمقراطي ليتولى تشكيل حكومة “تسليم وتسلم” تنهي الوضع الانقلابي وتستعيد الانتقالي.

إذا تأخرت الفرصة الأخيرة أو تعطلت، فلا سبيل سوى سيناريو “اليوم الآخر” على اسم الفيلم الشهير “The other day”.

عثمان ميرغني
إرم نيوز