هل الديمقراطية في أفريقيا بحاجة إلى رسول أم صديق؟
لم يكن الفريق عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة السودانية ضمن قادة أفريقيا الذين توافدوا إلى مؤتمر القمة الأميركي – الأفريقي الأسبوع الماضي، إذ استبعدته الإدارة الأميركية ضمن أربعة رؤساء أفارقة آخرين لمجيئه إلى الحكم بانقلاب عسكري، مع حرص أميركا الرسمية على ألا تصف انقلابه إلا بـ”الاستيلاء العسكري على السلطة”.
يرسل موقف أميركا من انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) الذي حمل البرهان إلى الحكم فرداً، رسالة بليغة للديمقراطية السودانية، إذ سبق للرئيس بايدن ذكر محاسن الثورة السودانية ودور النساء فيها في قمة للديمقراطية عقدها بواشنطن قبل عام في ديسمبر (كانون الأول) 2021. وحجب البرهان عن القمة الأفريقية، من جهة أخرى، مطابق لموقف الكونغرس الأميركي الذي أجاز قبل أكثر من عامين قانون الانتقال الديمقراطي في السودان، وهو وثيقة نادرة لم يسبق أن وضع مثلها لبلد آخر. فلم يترك القانون فرضاً ناقصاً في دعم ذلك التحول المدني في أعقاب انقلاب 25 أكتوبر. وفصل في عقدة المسألة، وهي استبعاد القوى النظامية من حقل الاقتصاد والعقوبات التي ستطاول من يعترض سبيل الانتقال.
ويستغرب المطلع على تاريخ السودان الحديث لهذه العزيمة الأميركية حيال السودان. ويدهش هذا المطلع كيف صار البلد المتهم بأنه كان وراء أول انقلاب في السودان في نوفمبر (تشرين الثاني) 1958 بعد عامين من استقلاله، حادياً للديمقراطية فيه. وروج لهذه التهمة الشيوعيون الذين كانوا على بينة من انقلابات سابقة في بلاد أخرى كتايلاند، وكانت أميركا وراءها بلا ريب. واشتهرت بين الناس قصيدة للمعلم النقابي شاكر مرسال عن دور أميركا في الانقلاب الذي خاطبت قادته بأن نظامهم “ولد سفاحاً فما أنت حر”. وأنه مما ركبه “رعاة البقر”، وسيلقى مصيره ولو كان “ربه أيزنهاور”.
ولم تول أميركا الديمقراطية السودانية اعتباراً بعد تحول الرئيس الانقلابي جعفر محمد نميري (1969-1985) إلى ترميم علاقته مع أميركا بعد مغامرته اليسارية وانفصاله عن الشيوعيين في 1971. وبذلك دخلت أميركا في طور ما يعرف بـ”إدارة الديكتاتور” في شرط الحرب الباردة. فوصفت نميري بأنه “صديق وشريك مهم”. فبإدارة الديكتاتور تكسب أميركا من الحليف في حين تحاول هدايته إلى حكم أقوم. وهكذا عقدت حلفاً بينه ومصر في مواجهة منظومة ضمت العقيد القذافي والإثيوبي منقستو هايلي ماريام ممن كانوا حلفاء للاتحاد السوفياتي.
أما من جهة هداية أميركا للديكتاتور فكان يزعجها من نميري نفوره من ضمان بقائه في الحكم بمصالحة وطنية، كما أزعجها اطراد تحوله إلى الحكم بالشريعة الإسلامية. وهو تطرف جالب لحرج أميركا لأنه يحمل الجنوبيين في السودان، الموصوفين بالتدين بالمسيحية، على التحول عن دينهم.
سرعان ما تجددت الحرب الأهلية في 1983 بعد عقد من السلام أعقب اتفاقية أديس أبابا مع القوميين الجنوبيين (1972). وهي الاتفاقية التي فضها نميري من جانب واحد. ولا أعرف عبارة تلخص المتاعب المترتبة على إدارة الديكتاتور مثل قول دبلوماسي أميركي لمن انتقدوا بلده لجنوحها نحو نميري في مغرب دولته بخروج الشعب عليه في مارس (آذار) 1985، “إذا كان يتحتم علينا أن نقصر دبلوماسيتنا في أفريقيا على الدول ذات النظام الديمقراطي فلن يكون لدينا كثير من الدبلوماسية”.
ولم تحسن أميركا إدارة الديمقراطية في السودان كما لم تحسن إدارة الديكتاتورية فيه، فاسترد السودان الديمقراطية بثورة 1985. وسادها لا مفر ما يسود الديمقراطية من صراع كانت نقطة حرجه الحرب الأهلية في جنوب السودان. حين اختار العقيد جون قرنق، قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان، من موقعه في إثيوبيا الاشتراكية أن يواصل الحرب. وقال إن الثورة لم تفعل سوى استبدال نميري بعسكريين آخرين هم أعضاء المجلس العسكري بقيادة عبدالرحمن سوار الذهب. وكان سوار الدهب انقلب على نميري بزعم الانحياز للشعب. وقال قرنق لقادة الثورة إنه لن يلبي دعوتهم للانضمام لهم حتى يبعدوا العسكريين من الحكم. وكان ذلك أمراً إداً. ولم يستجب لدعوات حلفائه في الثورة بأن ينضم لركبهم فترجح كفتهم به وقاطع الانتخابات وصعد عملياته العسكرية التي تستدعي تدخل الجيش لا محالة. وهكذا أعاد قرنق مختاراً السياسة إلى الثكنات بعد أن كانت الثورة أطلقت سراحها منها.
واختارت أميركا بالتدرج الاصطفاف مع الحركة الشعبية دون النظام الديمقراطي. فكان قرنق قد فقد مواقعه في إثيوبيا بعد إطاحة منقستو في 1991. فلم يعد ملحاً على اشتراكيته الأولى مما ضمن له القبول في أميركا بواسطة اللوبي المسيحي والأفريقي – الأميركي. وصار قرنق النجم الثاقب في سماء السياسة الأميركية بل والغربية حتى دعاه البوندستاغ الألماني ليخاطبه وجهاً لوجه. وكانت تلك رسالة مخيبة لأمل الديمقراطيين السودانيين. ودارت الحرب سجالاً بين الحكومة والثوار ليخرج ضباط في الجيش في حلف مع الحركة الإسلامية بانقلاب 1989.
ونأتي أخيراً إلى إدارة الديكتاتورية لفترة نظام الإنقاذ (1989-2019). ونتجاوز هنا العقد الأول من نظامها بعد انقلاب 1989 الذي تربصت أميركا فيه لإسقاطه. فسمته دولة راعية للإرهاب في 1993 وحاصرته بالعقوبات الاقتصادية منذ 1998. وعملت على عهد كلينتون للتحالف مع معارضة “الإنقاذ” وجيران السودان في إرتيريا وإثيوبيا لإطاحته.
ونأتي إلى فترة إدارة ديكتاتورية الإنقاذ بواسطة السياسة الأميركية. وهي الفترة التي سماها الصحافي المميز خالد التجاني “الحليف من نوع خاص”. وأراد بذلك أن السودان حليف لأميركا رخيص الكلفة. فكانت “الإنقاذ” خشيت أهوال ما بعد الـ11 من سبتمبر (أيلول) التي قد تطاولها في حين أنهكت الحرب الأهلية اقتصادها، علاوة على رغبتها في الخروج من وضعية الدولة الراعية للإرهاب. فقبلت بأن تتعاون أمنياً مع أميركا وأن تتصالح مع فكرة التفاوض مع الحركة الشعبية لأجل سلام مستدام، مما يرضي أميركا أيضاً. ولازم “الإنقاذ” مع ذلك سوء الحظ، فما إن أنجزت للأميركان مطلوباً مثل اتفاقية السلام الشامل مع الجنوبيين في 2005 حتى تفجرت مشكلة دارفور، ولم تحسن إدارتها فعاد الأميركيون غاضبين ليحرموها من الجزرة التي انتظرتها، وهكذا دواليك.
وبلغ بالأميركيين السقم من إصلاح النظام حتى تمنوا قيام ثورة ترمي به في طيات التاريخ. ففي محاضرة لبرنستون ليمان المبعوث الأميركي الخاص في يوليو (تموز) 2017، استنكر قمع “الإنقاذ” لمقاومة الشارع ودعا إلى أن يكون لها صوت مسموع في تكييف أوضاع البلاد ليتطابق مع ما تريده للسودان. وقامت الثورة على “الإنقاذ” بعد عام ونصف العام من نبوءة ليمان.
وجاء في إعلان الرئيس بايدن الباكر الموجز بالقمة الأفريقية أنها ستنعقد لترسيخ الالتزام الأميركي – الأفريقي بالديمقراطية. وجاءت هذه العبارة مقدمة على غيرها. وتكشف لنا حال السودان مع ذلك عن أنه بينما التزم الديمقراطية بكلفة فادحة وإطاحة الديكتاتورية مثنى وثلاث لم تلتزم أميركا سوى إدارة الديكتاتورية فيه. وربما الدرس المستفاد في السودان بعد عقود من الديكتاتوريات والثورات عليها أن لا حاجة إلى الديمقراطية في أفريقيا برسول يبشر بها. فالتبشير بها عقيم، لأنه في عبارة أميركية وعظ للجوقة الموسيقية الكنسية. وربما احتاجت الديمقراطية في أفريقيا إلى صديق، ولا تزال. وبشارة الصداقة هذه لاحت في قانون الانتقال الديمقراطي الصادر من الكونغرس الأميركي وتطبيقه باستبعاد البرهان من القمة الأفريقية.
عبد الله علي ابراهيم
إندبندنت عربية