عثمان ميرغني يكتب: السودان.. “قابلني” باللون الأحمر
خلاصة المحصلة النهائية “قابلني” كبيرة بلون الدم وطعم الأشلاء ورائحة الدمار والخراب المادي والجسدي والمعنوي الذي دفع ثمنه الشعب السوداني من حُر أحزان بناته وأبنائه، فمن المسؤول؟
عندما كنّا في المرحلة الأوليّة من التعليم، كانت حصة “الإملاء” واحدة من أرعب الحصص الأسبوعية، لأنها امتحان محدد القياس ينتهي بعلامات واضحة، فالأداء الرفيع وخلو القطعة من الأخطاء الإملائية يستحق درجة “ممتاز” يكتبها المعلم بالقلم الأحمر فتصبح نجمة إنجاز في كراسة التلميذ، ويتدرج التقدير إلى “جيد جدا” ثم “جيد”، وعندها ينتهي التمجيد لتبدأ علامات التبكيت، وهما اثنتان الأولى سيئة والثانية خطرة.
الأولى السيئة هي “أعِدْ” وتعني أن الأخطاء في القطعة المملاة تتطلب إعادة كتابة كامل القطعة مرة أخرى، وطبعا الإعادة مرهقة جسديا ومعنويا كونها تأتي في موضع العقاب.
أما العلامة الثانية الخطرة التي توتر التلاميذ وتقلق منامهم فكانت كلمة “قابلني”، ورغم أنها لغويا لا تعني أكثر من أن المعلم يأمر التلميذ بالحضور للقاء مباشر منفرد في مكتبه ربما لتنبيهه، إلا أنها عمليا تعني أن السقوط في الاختبار الإملائي بلغ مرحلة “العقاب”، فالمقابلة مرتبطة غالبا بالجلد بسوط كان يكفي مجرد رؤيته أن يتسبب في الأذى الجسيم.
السكان هُم هُم لم يتغيروا، والأرض والطبيعة، كل الذي تغير أن الساسة أدخلوا في عناصر اللعبة السياسية استخدام خطاب الكراهية لتأجيج الصراعات بين القبائل ليصبح الاستقطاب السياسي سهلا.
مناسبة هذه الخاطرة أنه مع نهاية هذا العام 2022 فإن أفضل ما يمكن أن تُجرد به حصيلة العام في السودان، هو كلمة “قابلني” بالقلم الأحمر.
أكثر من 2000 قتيل في اشتباكات أهلية، الشعب يفتك بالشعب، ليس في إقليم دارفور المتأزم وحده، بل في كل أرجاء السودان، وأكثر من 200 حصيلة من سقطوا في التظاهرات السياسية ضد السلطة العسكرية، وأضعاف هذه الأرقام ممن هجروا ديارهم، إما بسبب العنف القبلي أو الفيضانات والسيول والأمطار أو الذين أصيبوا بعاهات مستديمة نتيجة فقدان بصرهم أو أطرافهم في التظاهرات أو الذين كانت إصاباتهم أقل درجة..
خلاصة المحصلة النهائية “قابلني” كبيرة بلون الدم وطعم الأشلاء ورائحة الدمار والخراب المادي والجسدي والمعنوي الذي دفع ثمنه الشعب السوداني من حُر أحزان بناته وأبنائه، فمن المسؤول؟
في العادة، عندما يقف الساسة أمام كاميرات الإعلام فإنهم يُفَخِمون الحيثيات لتبدو في قالب تفسير فلسفي يمنح هذه الجرائم وصفا لا يجرح الخاطر السياسي، فمثلا يتحدثون عن صراعات ثقافية أو عنصرية بين العرب والأفارقة، وغيرها من المفردات التي لا تُلزِم قائلها بالدليل القاطع.
والحقيقة أن هذه الصراعات لم تكن موجودة على الإطلاق قبل عقود قريبة، فحتى بداية تسعينيات القرن الماضي كان ممكنا التجول في إقليم دارفور، الذي تفوق مساحته فرنسا، لا يخشى المسافر على نفسه حتى لو كان منفردا في سيارة صغيرة، فهي مناطق آمنة يتمتع سكانها بخيرات طبيعية لا حدود لها، خاصة المحاصيل الغذائية والثروة الحيوانية..
بل إن “جبل مرة” في دارفور ـ وهو واحد من أجمل بقاع السودان ـ يزدحم بمنتجات الفواكه التي لا تتوفر إلا في مناخ البحر الأبيض المتوسط، ما جعله قِبلة الشعراء والفنانين السودانيين الذين تغنوا له بأجمل الأغنيات، هذا الـ”جبل مرة” الآن منطقة حرب وميدان للقتل المجاني، وبعض المناطق فيه يعيش سكانها تحت حماية البندقية حتى عندما يفلحون أراضيهم.
السكان هُم هُم لم يتغيروا، والأرض والطبيعة، كل الذي تغير أن الساسة أدخلوا في عناصر اللعبة السياسية استخدام خطاب الكراهية لتأجيج الصراعات بين القبائل ليصبح الاستقطاب السياسي سهلا، وهو في آخر المطاف يُثمر مناصب وقسمة السلطة والثروة في العاصمة الخرطوم، وليس هذه المناطق التي تكتوي بنيران الصراعات الدامية.
ما يحتاجه المواطن بعد كل هذه الدماء ليس “الأمن”، بل “الأمان”، فالأمن ترتيبات تفرضها قوة عسكرية أو أمنيةأمنية، ومهما كان حجمها أو تسليحها لن تستطيع أن تحرس كل مواطن في بيته وعمله وفي الأسواق، خاصة في دولة بمساحة قارة، أما “الأمان” فهو الإحساس بالعدالة والعشم في مستقبل أفضل، وهو الذي يحرس المواطن بلا حاجة لسلاح.
ويكفي للتدليل على سوء المُنقلب السياسي في استخدام أدوات التجييش القبلي أن مجلس الأمن خلال أقل من خمس سنوات في الفترة من 2004 حتى 2009 أصدر أكثر من 30 قرارا ضد السودان بلغ بعضها إحالة رئيس الجمهورية نفسه إلى المحكمة الجنائية الدولية. “قابلني” دولية بطعم العار والإهانة لكل السودانيين.
وبعد الإطاحة بالنظام السابق، ورغم دخول السودان مرحلة جديدة يفترض أنها حققت التغيير السياسي نحو الأفضل، إذا بالأوضاع تزداد سوءا وتغرق البلاد كلها -وليس دارفور وحدها- في بحور الدماء التي سالت في أقصى الشرق ثم النيل الأزرق وقبلها ولا تزال في جنوب وغرب كردفان، لا تختلف إلا في أعداد الضحايا وتشترك في خطاب الكراهية الدامي والقتل المجاني.
الساسة الذين يدمنون خطاب الكراهية آمنون هُم وأسرهم في العاصمة الخرطوم، لا يزورون هذه المناطق، وفي أضيق نطاق إلا وحولهم جيوش من الحماية المدججة بالسلاح، وفي كل مرة يشتعل فيها الحريق تُكَوَّن لجان التحقيق وتُطلَق التصريحات الغاضبة عن المحاسبة ومنع الإفلات من العقاب، ولكن الحقيقة المُرة أنه بعد مقتل 2000 في هذه السنة المنصرمة 2022 لم ترصد الأخبار إيقاف مسؤول واحد عن القتل والدمار أمام منصة القضاء! هل يعقل أن يموت كل هذا العدد ويظل القاتل مجهولا؟ ولا قاتل واحدا؟
الأمم المتحدة قبل سنوات أرسلت قوات “اليوناميد”، وهي قوة مشتركة أممية وأفريقية لحماية المدنيين في دارفور، وإلى حد ما ساهمت في بعض الاستقرار ورصد الخروقات والجهات المتورطة فيها، لكن الحكومة بعد الثورة ضغطت لإخراج هذه القوات باعتبار أن النظام السابق كان مسؤولا عن العنف، ولا حاجة للحماية الدولية بعد زواله..
ولكن، ثبت أن الأوضاع تدهورت بدرجة مخيفة بعد خروج قوات “اليوناميد” التي نُهبت مقراتها بفعل فاعل يرتدي البزة النظامية، واعترف بذلك حاكم إقليم دارفور السيد مني أركو مناوي ووصف الفعل بأنه ” عار وعيب كبير”.
ما يحتاجه المواطن بعد كل هذه الدماء ليس “الأمن”، بل “الأمان”، فالأمن ترتيبات تفرضها قوة عسكرية أو أمنية ومهما كان حجمها أو تسليحها لن تستطيع أن تحرس كل مواطن في بيته وعمله وفي الأسواق، خاصة في دولة بمساحة قارة، أما “الأمان” فهو الإحساس بالعدالة والعشم في مستقبل أفضل، وهو الذي يحرس المواطن بلا حاجة لسلاح.
في الصحراء الشاسعة شمال السودان ينشط قرابة مليوني مُنّقِب عن الذهب من كل قبائل السودان، ينتشرون في فيافي لم يمسسها قبلهم إنس ولا جان، بلا حراسة من شرطة ولا سلطة، ومع ذلك لا ترصد السجلات جرائم مهما كانت صغيرة، فالذي يحرسهم هو المصالح المشتركة والعشم في الفوز بالذهب.
يحرسهم “الأمان” وليس “الأمن”.
صحيفة التيار