مقالات متنوعة

صلاح شعيب يكتب: مشروع توطين الحداثة الإبداعية بين ثقل العولمة، ونهوض الريف

هل تراجع تأثير التحديث الإبداعي، وفقاً لتجليات المنتجات الثقافية التي تحصلنا عليها بعد استشراء مشروع العولمة الثقافية، وخصوصاً مع تصاعد دور وسائل التواصل الاجتماعي، ويرافق هذا التصاعد تراجع ملحوظ لمركزية التقييم التي كانت تتعهدها لجان رسمية في الإذاعة، والتلفزيون، ووزارة الثقافة والإعلام، فضلاً عن انتهاء دور مركزيات نقدية تتمثل في المشرفين على الملفات الثقافية في الصحف، والمجلات، والدوريات، حيث كانت للمركزيتين التقيمية الرسمية والخاصة أدوات معروفة للحكم على إمكانية أو عدم إمكانية عرض الأغنية، أو طبع الرواية، والديوان، أو نشر القصيدة، أو المقالة، أو الحجز للمسرحية، والأعمال الدرامية في موصلاتها المعروفة؟
وإذا لم يتراجع تاثير التحديث المعني الذي تجاوز الستين عاماً، أو تزيد، فإلى أي مدى يمكن ملاحظته وسط هذا الإغراق في المادة الإعلامية، وإذا تبين أنه منطمر وسط هذا الركام، فكيف يمكنه منافسة التجارب الإبداعية الجديدة التي تجد انتشاراً كثيفاً وسط الجمهور، وهي لما عجزت عن الانطلاق من منصة التحديث القائم على الإجابة على الأسئلة الوطنية، والوجودية، عبر الفكرة، والتنفيذ؟. وذلك ما كان يحدث عندما نسمع أغنية لعثمان حسين، أو نشاهد مسرحية لهاشم صديق، أو عمل درامي إذاعي لحمدنا الله عبد القادر، أو قصيدتين لعالم عباس، والصادق الرضي، مع الفارق في الأزمان، أو نحصل على قصة ليحيي فضل الله، ورواية لبشرى الفاضل؟
وهكذا، وهكذا، تترى أسئلة عديدة في سياق تراجع التأثير للمحدثين في هذه المجالات في وقت ماتت فيه الصحف، وتكاد الإذاعة تلحقها في السنوات القليلة القادمة. وهناك دراسات تتنبأ بهجر الناس التلفزيون قريباً كما حدث مع الصحافة الورقية، إذ يتم تقطيع منتجاته في شكل “سندوتشات رقمية” لا تتجاوز مدتها الدقيقتين. ولعل هذا ما هو حادث في كثير من الأحيان – على مستوى الأخبار، والمواد الأخرى، حيث صار المشاهد ملولاً أمام المادة الطويلة. إذ حوله مغريات عديدة من المنتجات الإعلامية للمواقع والتطبيقات التي تقوم بجزء مما يقوم به التلفزيون، وهو الذي سيطر على ميزة إعلام الصورة في نصف قرن مضى برموزه.
إن توقف تجربة البي بي سي التي تشبه انهيار جدار برلين سيلقي بتبعاته على الإذاعات آن آجلاً، أم عاجلاً. وكما سخر بعض السودانيين بأن “الشيوعية في بلدا انتهت” فحتماً سيأتي وزير ثقافة وإعلام يوماً ليقول للناس: البي بي سي في بلدا برضو انتهت، ولاحاجة لنا بالإذاعة..وهذا الجيش الجرار من محطات الاف ام، والإذاعات الإقليمية.
ما تبدى من العولمة الثقافية التي صعد بها الإنترنت إلى أعلى سقوفها يمثل جزءً يسيراً مما ستحدثه لا على مستوى التحديث الإبداعي، وإنما سيكون لها تأثيرها السالب على مستوى الرسائل التقليدية في المجتمع التي ينتجها المسجد، والكنيسة، والدير، والمدرسة، ومؤسسات الحبوبة والأب والأم، والجمعيات، والأندية الثقافية في المدن، وغيرها من المؤثرات المجتمعية التي ظلت منذ فجر التاريخ أطراً مركزية لتحديد طرق المعرفة، والإخبار، والإمتاع.
سودانياً، حتى قبل سيطرة الإنترنت في نحو العقدين الأخيرين كان تأثير آبائنا الثقافيين – والأجداد بالنسبة للجيل الحديث – كبيراً،ولكن مع ظروف الموت، والمرض، والإحباط، انقضت مرحلة جيل مهم عمل لتوطين الحداثة في مجالات الإبداع من رواية، وشعر، ونقد، وقصة قصيرة، وغناء، ومسرح، ودراما، وفن تشكيل، وإعلام. ولكن إخواننا الكبار الثقافيين المحدثين الآن الذين حاولوا أن يبنوا فوق مداميك جيل الآباء يعانون الأمرين في الوقت الحالي. فما ينتجوه في عصر التواصل الاجتماعي الذي جاء بنجومه أيضاً لا يجد مجالاً للانتشار بذات المستوى الذي ينافس أغنية لإيمان الشريف – مثالاً – تجد في ظرف يومين مئة ألف مشاهد في اليوتيوب وحده وليس بقية التطبيقات. ذلك رغم أن جمهورها هو أبناء وبنات شعبنا الذين نتوقع أن هناك حاجة كبيرة تجعل الإبداع التحديثي يستهدفهم في المقام الأول قبل استهداف النخبة، والتي هي بشكل، أو آخر، تمتلك كثيراً من مفاتيح المعرفة التي نشدتها القصيدة النثرية، أو مسرحية التجريب، أو اللوحة التكعيبية، أو الرواية التي تطرح أسئلة وطنية، أو كونية.
غنائياً، السؤال الكبير هو ما الذي سيحدث لدى الجيل الذي سيخلف هذا الناشط الآن، وإلى أي مدى سيقود شكل ومضمون الأغنية التي حرستها لجان النصوص لنصف قرن حتى لا تأتي مكسورة البيت، ناهيك عن أنها مطالبة بإضافة رؤية جديدة موضوعية بمعايير السلطة، والطبقة الوسطى الخرطومية تحديداً، الذين تمثلهم هذه اللجان؟.
نحن نعلم أن أغنيتنا التي وصلت إلى قمة تجريبها السوريالي كانت مصنوعة لضرورات توحيد ذوق السودانيين، وإلا لانفتحت الإذاعة بلا هدى، أو خطة برامجية، على أغاني الربوع جميعها التي حصرتها في قيد زمني محدد في البث. ولكن الملاحظ الآن أنه بعد قرن تقريباً لا يسيطر غناء التحديث الآن على مستوى الإنتاج الغنائي الأكثر انتشاراً في وسائط التواصل الاجتماعي. بل انتشر بشكل كثيف غناء الريف بنغمات، وإيقاعات جديدة، وأصبح ينافس الغناء المديني بشكل باهر، وفي كل الأحوال لا يمثل هذا عاملاً سلبياً. فالغناء الذي لا ينطلق بمشروع تحديثي يمثل فئات من أبناء وبنات شعبنا، ويحقق لهم متعة وجدانية. وهذا الجمهور لا يريد أكثر من ذلك ألهم إلا إذا أعددناه بشكل جيد من التنوير، كما نعد الطلاب بعد تجنيدهم سياسياً. وسواء قلنا بتدني ذوق هذا الجمهور فإننا نجافي حقيقة أن الإنسان كائن يتطور في فهمه، وذوقه، ولم يتولد في السودان متلقٍ لم يمر بتجربة تذوق أقل مستوىً حتى أدمن غناء أبو عركي البخيت، أو مصطفى سيد أحمد. كما أن انتشار أغنيات الريف أمر إيجابي للغاية، إذ إن محاولات التنميط لصنع أغنية واحدة للسودانيين لم تفلح في عزل غناء الدليب، والبيبوب، والفرنقبيا، والكرنك، والدلوكة، والفرنقبيا، دون الانتشار قومياً. فالدولة المركزية قفلت الجرة بإحكام، ولما صارت مثل أسد مسن، تراجعت أوامر قبضها فانبهلت حقيقة الوجدان، وربما يقول رائد حداثوي إن حرثه قد أكله الدودو!.
الجدير بالذكر أكثر أن أغاني الريف الجديدة أكبر مخصب للمسافات، والمساقات، الإبداعية في السودان، فوقاً عن أنها تعرف السودانيين بعضهم بعضاً بتراثهم النغمي، والإيقاعي. وهو أكبر معين للازمة التعدد الثقافي، اللازمة التي نؤمن بها كوسيلة لخلق مساقات فنية في إطار التنوع في قزحية الإبداعية السودانية.
عوداً إلى بدء، يظل تراجع التأثير للإبداع الحداثي عموماً في بلادنا مرتبطا بأسباب أخرى غير إعلامية جديدة وضعته في هامش التلقي العام. فجانب من هذا التراجع ربما، ربما، يعود إلى قلة المواهب، أو قلة قدرتها في تجويد الأفكار، وتجديدها، وتنفيذها ضمن السياق الإبداعي الذي أثرت فيه العولمة على الصعد الإنسانية كافة، ولسنا بدعاً. وكذلك يعود التراجع إلى الانسجان في القوالبالإبداعية المتعارف عليها في التأليف الغنائي، أو الروائي، أو الدرامي. ومع ذلك هناك ضرورة لدراسة الأسباب الأخرى التي قد تتعلق بواقعة أن مشروع التحديث انطرح فوقياً لصالح جمهور الطبقة الوسطى، واستهدفه بدرجة أولى أكثر من استهداف أهل الريف، والطبقات الفقيرة، وهم مناط التحديث، وفنونهم تعد درجة من المحلية تقود للعالمية.
السؤال الأخيرة: كيف استطاع المبدعون السينمائيون – استثناءً – تطوير، أو القفز فوق التحديثات السينمائية لروادها الرشيد مهدي، وجاد الله، وحسين شريف، والطيب مهدي، وشداد، وسليمان محمد إبراهيم، وعبد الرحمن محمد عبد الرحمن، ليحققوا عشرات الجوائز في المهرجانات الإقليمية، والعالمية في الآونة الأخيرة؟

صحيفة اليوم التالي