مقالات متنوعة

ماذا أنتجت الجبهة الإسلامية القومية؟

إن لم يطلع ابن الفأر حفارا، فقد يكون ذلك مثار دهشة واستغراب أما إذا طلع حفارا، فهذه هي النتيجة الطبيعية.

يرث الأبناء آباءهم.
ويرث أفراد الجماعات مناهجها وأساليبها.
عمنا العجب طلحة الله يرحمه ويحسن إليه عاش أكثر من نصف قرن مؤذنا يرفع الآذان بطريقته العفوية الخشوعة التي يرتاح لها المصلون، وتبعث فيهم الخشوع والسكينة.
فما أن يذكر المسجد والآذان إلا ويذكر عمنا المرحوم العجب طلحة، وما أن يغيب عن المسجد ونادرا ما يحدث ذلك إلا ويسأل المصلون عنه وعن سبب غيابه، فلا يرون أحدا مثله يقوم بهذه المهمة.
هذه الحالة حالة الارتباط بالآذان لعمنا المرحوم العجب طلحة انتقلت كأمر طبيعي لأبنائه، فأبناؤه لم يدخلوا معاهد دينية، ولم يتدربوا في جهات معينة جعلت أصواتهم بهذا الخشوع والسكينة، سبب ذلك هو أنهم نشؤوا وتربوا وترعرعوا في بيت ارتبط بالآذان ارتبط بالمسجد، فأخونا صديق العجب ارتبط بالمسجد وصوته نسخة من صوت أبيه، وكذلك أخونا عبد الله العجب وما أن استقر الآذان مع أخينا مصطفى العجب، فلم يستغرب أحد من نداوة صوته وخشوعه.
فالشاهد من هذا المثال هو أن النشاط الذي يرتبط بالآباء قد ينتقل للأبناء كما أن النشاط الذي يرتبط بالجماعات قد ينتقل للمنتسبين إليها.
فقد يختلف الناس حول منهج السلفيين إلا أن هذا المنهج خلف دعاة انتشروا في بقاع الدنيا مؤمنين بهذا المنهج يمارسونه ويدافعون عنه بكل تجرد وإخلاص يرجون به رضا الله.
وكذلك المنهج الصوفي خلف دعاة على ذات نسقه ومنهجه.
وكذلك جماعة الإمام حسن البنا.
وكذلك جماعة أنصار المهدية في السودان.
فالشاهد في كل هذه الجماعات وغيرها سواء اختلف الناس أو اتفقوا حول منهجهم إلا أن الحقيقة التي لا تخطؤها عين هو أن لهذه الجماعات دعاة ينتشرون في أنحاء المعمورة يدافعون عن منهجها وعن أساليب دعوتها.
جاءت الجبهة الإسلامية القومية كمدرسة مختلفة عن كل مدارس الجماعات الأخرى.
صحيح أن أصولها وبعض رموزها انحدروا من جماعة أخوان الإمام حسن البنا بمصر إلا أن منهجهم أصبح بما طرأ عليه من تجديد يختلف كل الاختلاف عن جماعة الأخوان بمصر، وذلك الاختلاف لم يكن أمرا معيبا بحجة أن هذا الدين الإسلامي ليس حكرا على جماعة بعينها، وإنما هو ملك لكل مسلم بل من حق كل مسلم أن يدافع عن هذا الدين وينافح عنه، ومن هذا المنطلق اندفع أخوان السودان ممثلين في الجبهة الإسلامية القومية.
إلا أن هذه الجبهة انحرفت لدرجة أنها لم تخرج أي شكل من أشكال الدعاة في الساحة الإسلامية، وإنما خرجت مجرد تجار همهم كسب المال وهمهم تكوين ثروة، وهذا الانحراف ليس سببه كون هذه الجماعة خرجت عن منهج أخوان مصر.
وليس بسبب أنها تبنت تيارا سياسيا قادها للاستيلاء على السلطة عام ١٩٨٩م .
ليس هذا سبب انحرافها.
هذا الانحراف الذي لم ينتج سوى تجارا بالسوق.
فليست ثمة دعاة أنتجتهم هذه الحركة يدافعون عن هذا الدين وينافحون عنه.
كلهم وجدوا أنفسهم في السوق يبحثون عن المال كيفما اتفق، وما هذه النتيجة بسبب أشخاص معينين، وإنما بسبب المنهج الذي تبنته هذه الجماعة.
هناك عدة أساب جعلت هذه الجماعة تمرق من الدعوة الإسلامية مروق السهم من الرمية لعل أهمها يتمثل في النقاط التالية:
* الهدف الذي وضعته هذه الجماعة أمامها ليس نصرة الدين، وإنما هو هزيمة اليسار والتغلب عليه.
صحيح أن اليسار هو العدو التقليدي للجبهة الإسلامية القومية، ولكن ليس من الدين في شيء أن تقف هذه الجبهة عند هذا العدو التقليدي.
همها كان ينبغي أن يكون أسمى وأرفع من مجرد الانتصار على على هذا اليسار.
فوقوف نظرتهم عند معاداة اليسار فقط جعلتهم ما يجدون طريقا يضعف اليسار ويهزمهم إلا وساروا فيه وإن كان هذا الطريق يخالف التعاليم الإسلامية.
فهذا المنهج منهج استقصاد عدو بعينه منهج بعيد كل البعد عن تعاليم الإسلام، وعن سيرة الدعوة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
فما كانت الدعوة في مكة إلا مرحلة من مراحل الدعوة الإسلامية تجاوزتها الهجرة النبوية للمدينة المنورة.
وما عداوة كفار قريش إلا مرحلة من مراحل الدعوة الإسلامية تجازوها فتح مكة.
وما الدعوة بالمدينة المنورة إلا مرحلة من مراحل الدعوة الإسلامية تجاوزتها الدعوة بنشرها في أصقاع الدنيا.
فما عرف عن الدعوة الإسلامية منذ ولادتها أنها استقصدت عدوا بعينه، وإنما كل همها كان نشر الدعوة، وما العداوات التي تتخلل هذه الدعوة إلا محطات سرعان ما تتجاوزها إلى المحطات التي تليها.
التوقف عند محطة واحدة والتركيز عليها بغرض هزيمتها والتنكيل بها بأي وسيلة من الوسائل سواء كانت صحيحة أو خاطئة ما هي إلا نظرة قاصرة لا تدرك كنه هذا الدين ولا تدرك مقاصده.
* حب السلطة والزعامة جعل من يتقدم هذه الجماعة ويتولى أمرها ما كان يحلم بهذا التقدم وبهذه التزكية وبالتالي سيكون أبعد ما يكون في التفكير في أن يتولى مكان من قربه وزكاه.
هذا المنهج قرب عديمي التجربة وأبعد أصحاب التجربة بطريقة مقصودة الغرض منها التعلق بالزعامة لدرجة المرضية.
* حصر الخيرية والإيمان بالمشروع الحضاري في أعضاء الحركة، فكل من بداخلها منذ تأسيسها فهو ملاك طاهر مرفوع عنه القلم معذور ولا يؤاخذ نهائيا مهما ارتكب من ذنب إذ كيف يؤاخد وهو داخل هذه الحركة منذ أن كان طالبا منذ أن كان عضوا بالتنظيم.
لذلك تحديد خيرية كل عضو من عدمه يحكمه تاريخه، فإن كان تاريخه مرتبطا باليسار فهو شيطان ماكر، وإن كان تاريخه مرتبطا بالحركة فهو ملاك طاهر.
هذا المنهج هو الأصل تم التنازل عنه أو إلغاؤه نتيجة لظروف معينة وطارئة مرت بها الحركة.
هذا المنهج أفرز إقصائين:
إقصاء داخلي يشمل من لا ينتمي لهذه الحركة من المواطنين.
وإقصاء خارجي عدائي جعل الحركة عبارة عن كتيبة جيش تدافع عن برنامجها ووجودها.
* سياسة الترغيب التي اتبعتها الحركة ارتبطت بتولي المناصب الإدارية بالدولة، وبترك أموال الدولة تجري على أيادي رموزها باعتبارهم هم أصحاب المشروع، وهم أحق من غيرهم في امتلاك ثروات البلاد، وبتمليكهم أي عطاء تجاري خاص بالدولة وبمرافقها.
هذا المنهج جعل من أعضاء الدولة عبارة عن تجار.
تجار سوق كل غرضهم أن يحصلوا على المال بأي طريقة كانت.
كما حول دعاة الدين إلى تجار جعلوا من كل المؤسسات الدينية عبارة عن مؤسسات تجارية يتكسبون منها المال.
لم تكن ما أنتجته حركة الجبهة الإسلامية بسبب أفراد، وإنما بسبب المنهج الذي تبنته الحركة هو الذي قاد من ينتسبون إليها إلى السوق.
صحيح أن من قام بتنفيذ هذا المنهج المعطوب أشخاصا مختلفين و تم عبر فترات مختلفة، وما ذلك إلا بسبب ان الفشل يقود إلى فشل.
فلا تلقوا اللوم على انفصال الجبهة الإسلامية من حركة الأخوان الأم، فالتجديد ظاهرة كونية صحية.
ولا تلقوا اللوم على من وجدوا أنفسهم في المناصب والقيادات العليا، فالبشر مجبولون على تقلد المناصب العالية.
لا تلقوا اللوم على من وجدوا أنفسهم أصحاب أملاك وعقارات وسيارات فهكذا النفس البشرية تحب التملك والغنى.
لا تلوموا من سرق ونهب، فالمال السايب يعلم السرقة.
لا تلوموا الدعاة الذين استغلوا منابرهم من أجل المال والثروة فالنفس البشرية ضعيفة.
لا تلوموا السلطة فلا خلاف ولا اعتراض إطلاقا بين الدين والسلطة بل هما مكملان لبعضهما البعض فالدين يحمي السلطة والسلطة تحفظ الدين.
كل هؤلاء لا ذنب لهم، وإنما وقعوا ضحية لمنهج معطوب مدخله الذي دخل به على العالم يؤدي فقط إلى الدنيا بكل إغراءاتها وخداعاتها بل وشياطينها.
مما يعني بما لا يدع مجالا للشك أن من أراد الدين ومن أراد السياسة الرشيدة، فمدخله هو المنهج الصحيح.
لن تشفع له النوايا وإن كانت صادقة لن يشفع له الأفراد وإن كانوا على قدر من العلم والتدين.
السوق بكل طمعه وفساده وإغراءاته هو النتيجة الحتمية لحركة لا تعرف من المنهج الإسلامي سوى اسمه.

محجوب مدني محجوب

صحية الانتباهة