عثمان ميرغني

عثمان ميرغني يكتب.. سباق الوساطات


رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، ورغم أنف التوتر مع السودان، هبط الأربعاء الفائت في مطار الخرطوم في أول زيارة بعد قطيعة بين البلدين استمرت زهاء العامين. وفور وصوله تسلم مكتبا وثيرا بالقصر الجمهوري مزينا بعلم بلاده، وتَمَثَل قول الشاعر:

يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت رب المنزل

وظل يستقبل، بمكتبه في القصر الجمهوري السوداني، المسؤولين والقيادات السياسية والحزبية السودانية زرافات ووحدانا حتى نهاية اليوم، ثم عاد إلى بلاده.

خلاصة ما أدلى به من تصريحات؛ أنه لا يحمل مبادرة لحل الأزمة السودانية، وأهم من ذلك أنه لا يفضل أن ينتظر السودانيون حلولا من الخارج، دون أن يجيب عن السؤال الطبيعي هنا، إذن ولِمَ الزيارة؟ إن كانت الزيارة لا تحمل حلا بل نُصحا ألا يأتي حل من الخارج؟

حرص رئيس الوزراء آبي أحمد على لقاء كل الأطراف السودانية، وحرص أكثر على إيصال رسالة قوية أنه لا يميز بينها.
كثيرون لم يجدوا بُدا من قراءة حيثيات هذه الزيارة على خلفية الدعوة المصرية للقوى السياسية السودانية لاجتماعات بالقاهرة من 1 إلى 8 فبراير 2023 المقبل، واعتبروا أن إثيوبيا تحاول إما قطع الطريق على الدعوة المصرية أو في أفضل الظنون أن تنافسها.

معطيات العلاقة الثنائية بين السودان وإثيوبيا قد لا تستوعب أي تدخل للجارة إثيوبيا في الشأن السياسي السوداني، رغم أن الرئيس آبي أحمد يحمل في صدره وساما لما أنجزه في أغسطس 2019 عندما نجح في الوساطة بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري وتوقيع الوثيقة الدستورية التي دشنت بداية الفترة الانتقالية بشراكة مدنية عسكرية.

لكن، رغم هذا الإنجاز، فإن الرئيس آبي أحمد رفض وبشدة أية وساطة سودانية –على الأقل من باب رد الجميل – في الحرب التي أنشبت أظفارها بين أديس أبابا وإقليم التقراي خلال الأعوام الماضية، وكان السودان يأمل أن يكون وسيطا مقبولا للطرفين بحكم علاقته بهما، وبحكم أنه وحده الذي يستضيف عشرات الآلاف من اللاجئين الذين فروا إلى داخل الأراضي السودانية هربا من جحيم الحرب.

السودان بلغ من غضبه على رفض آبي أحمد وساطته أن طلب من إثيوبيا سحب قواتها من منطقة “أبيي” السودانية التي تقيم فيها قوات إثيوبية تحت علم الأمم المتحدة لكون المنطقة متنازعا عليها بين السودان وجمهورية جنوب السودان وشهدت عدة اشتباكات بين الجانبين.

من باب المعاملة بالمثل قد لا يكون السودان –رسميا- مستعدا لقبول وساطة إثيوبية بين الأطراف السياسية، لكن في المقابل فإن الرئيس الإثيوبي يدرك الحاجة الماسة لطي صفحة خلافات البلدين وابتدار مرحلة جديدة سيكون أفضل استهلال لها مثل هذه الزيارة التي تلامس جميع الأطراف دون أن تحتك بمسار الوساطات الدولية أو الإقليمية.

حرص رئيس الوزراء آبي أحمد على لقاء كل الأطراف السودانية، وحرص أكثر على إيصال رسالة قوية أنه لا يميز بينها، فظل يصرح بعد لقاء كل مجموعة أنه بحث معهم (العلاقات التاريخية بين البلدين وسبل تعزيزها وتطويرها)، ثم يعيد التأكيد على أن الحل يجب أن يكون سودانيا، متجنبا ما أمكن أن يفتح ملف الأزمة الحدودية بين البلدين.

بلا شك من جانبها، القاهرة كانت تنظر وتنتظر أن ترى بوضوح التقاطعات بين زيارة آبي أحمد إلى الخرطوم وزيارة الأطراف السودانية إلى القاهرة بعد بضعة أيام، فهل فهمت القاهرة أن تكرار آبي أحمد لعبارة “الحل يجب أن يكون سودانيا” أنه إشارة مبطنة للدور المصري المرتقب؟

مصر سبق لها دعوة الأطراف السودانية ذاتها التي التقاها آبي أحمد لزيارة القاهرة وعقد لقاءات سودانية- سودانية بعيدا عن الشد والجذب الداخلي قد تتيح فرصة للتوافق على حل سياسي يستبعد المواقف الإقصائية أو الصفرية الجامحة.

في كل هذا المشهد السوداني المضطرب يظل الغائب الوحيد هو الشعب السوداني ومصالحه، فالصراع السياسي هنا ينهض على معارك حول الكراسي والسلطة حتى لو سقط المعبد على رؤوس الجميع.
وتأمل مصر أن تنجح الأطراف السودانية في توسيع قاعدة المشاركة في الحكومة المدنية الانتقالية المتوقعة حال توقيع الاتفاق السياسي النهائي الذي يُنهي الوثيقة الدستورية ومعها الشراكة المدنية العسكرية في الحكم. ويُقصد بالأطراف السودانية هنا جناحا الحرية والتغيير، بالتحديد المجلس المركزي والكتلة الديموقراطية.

كثيرون ظنوا خطأ أن مصر اعترضت المسار الدولي الذي ترعاه الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة – الاتحاد الأفريقي- منظمة الإيقاد) وتقوده الرباعية الدولية (أمريكا – بريطانيا- السعودية – الإمارات)، لكن الحقيقة أن هذه الأطراف الدولية والإقليمية منحت مصر هذه الفرصة لتحاول استثمار علاقاتها التاريخية مع الأطراف السودانية في الوصول إلى حل، فهي ليست مبادرة مصرية ولا اختطافا لأدوار الوسطاء، بل مجرد دعم وتعزيز لكل هذه الرجاءات.

ومع الرفض المبكر من جانب قوى الحرية والتغيير “المجلس المركزي” دعوة القاهرة، فقد تبدو فرص التوافق شبه منعدمة فيفتح المجال للسؤال الطبيعي، ثم ماذا بعد هذا؟

ليس في الأفق إلا خياران:

السيناريو الأول: أن تمضي قُدما قوى الحرية والتغيير “المجلس المركزي” في العملية السياسية وتخلص إلى اتفاق سياسي نهائي بعد إكمال ورش العمل التفصيلية حول القضايا المعلقة من الاتفاق الإطاري.

السيناريو الثاني: أن يتوافق جناحا الحرية والتغيير على اتفاق نهائي صالح للقراءة من اتجاهين، فتقرأه مجموعة المجلس المركزي على أنه مكمل للإطاري، وتقرأه الكتلة الديموقراطية على أنه جابّ للإطاري، يصبح هو الوثيقة التي تشكل الفترة الانتقالية المقبلة.

السيناريو الأول سيقود إلى حكومة انتقالية ذات معارضة أقوى منها سياسيا وجماهيريا، بحساب القوى الجذرية التي تضم الشيوعيين ولجان المقاومة ثم أحزابا أخرى خارج الإطاري، مثل حزب البعث العربي الاشتراكي “الأصل”، إضافة للكتلة الديموقراطية.

ولو كانت معارضة دستورية رشيدة فلربما ساعدت الحكومة بأكثر من إعاقتها، لكنها معارضة مدمرة تستهدف خنق الحكومة الانتقالية والإجهاز عليها.

ومع الوضع في الاعتبار مجهود عناصر النظام المُطاح به شعبيا في إفشال الفترة الانتقالية برمتها، فإن الحكومة الانتقالية ستكون في موقف عصيب يفاقم عواصف الوطن.

أما السيناريو الثاني فلربما يمنح ضوءا في آخر النفق، لو رشد الساسة وعقلوا المصالح العليا للبلاد، وهو أمر يبدو دائما عصي المنال.

في كل هذا المشهد السوداني المضطرب يظل الغائب الوحيد هو الشعب السوداني ومصالحه، فالصراع السياسي هنا ينهض على معارك حول الكراسي والسلطة حتى لو سقط المعبد على رؤوس الجميع.

إرم نيوز