مقالات متنوعة

د حسن التجاني | وغربت شمس التبريزى…!!

* د. محمد عبد الوهاب جلال يرثي والدته في مقال نحسب أنه رسالةً عميقةً للذين ما زالت أمهاتهم على قيد الحياة وأخذ برهن قبل غروب شمسهن ..

* أعجبتني لغة المقال وعمقه الموضوعي الذي تناوله الكاتب لإيصال رسالته. وما أكثرنا حاجة لمثل هذه المقالات في هذا الزمن الصعب..شكراً د. محمد لقد كتبت فأحسنت.

إلى مضابط المقال..

* شغل وصف الكاتب الأرجنتيني بورخيس للفردوس بأنه مكتبة كبرى فيها كل الكتب، شغل تفكيري لوقت ليس بالقصير، ودفعني للبحث فى تصورات الجنة في الأديان والمعتقدات غير الإسلامية. ومن هناك إنتقل تفكيرى إلى البحث عن وصف للحياة الدنيا وصفاً مختصراً يحاكي ما فعله بورخيس. أول ما إهتدى إليه فكري هو أنه لا توجد دنيا واحدة لكل الناس، وإنما هي دُنى متعددة، ولكل واحد منا دنياه وسعيه وطريقه. إذن ما يعنيني هو إيجاد وصف لدنياي الخاصة وليس دُنى الغير التي لا تكاد تحصى. وبعد تفكير طويل وعميق توصلت إلى أن دنياى ليست سوى مدرسة تعاقب عليها المعلمون. وأهم ما يميز هذه المدرسة أن المعلمين فيها من الأحياء والأموات على السواء. الأحياء يعلمون من خلال حضورهم وأقوالهم، والأموات من خلال كتبهم. إكتشفت أن سنوات عمري لم تكن سوى تنقل بين المعلمين. لكني لم أفطن إلى تلك الحقيقة إلا حين قرأت ما كتبه مولانا جلال الدين الرومي عن أستاذه شمس الدين التبريزى.

سألت نفسي من هو التبريزي الخاص بي من بين جميع من علموني؟ هل هو إينشتين الذي لازمته طوال سني شبابي ؟ أم هل ياتُرى هو إبن خلدون الذي استغرقت رحلتي معه عشر سنوات، شعرت حينها أنه بمثابة شمس في سمائي؟ أم أنه الجاحظ الذي كان إكتشافي له فتحاً مبيناً في حياتي؟ أم أنه كان قودل الذي أزال غشاوة يقين الرياضيات عن عينيّ؟ لا بل هو ابن عطاء الله السكندري الذي كان فجراً أبيضاً في عتمة ليلي؟ لا هذا ولا ذاك، لعله جلال الدين الرومي الذي أخذ بيدي وهدّأ من روعي وأزال مخاوفي الوجودية وأجاب على أسئلتى التي ظلت بلا جواب لعقود طويلة؟ لكن لماذا كانت علاقاتي بكل هؤلاء تنتهي بالفراق بينما أستاذية التبريزي لم تنقطع عن تلميذه؟ لماذا كان ينتابني شعور في كل مرة بضرورة الرحيل عن أستاذ بحثاً عن معلم جديد؟ أليس لي تبريزي أتتلمذ عليه طول العمر كما كان التبريزي أستاذاً لجلال الدين الرومي طوال عمره؟ هل ستظل سمائي عارية تفتقر إلى شمس لا تغيب؟ كنت أردد بيني وبين نفسي: من لم يكن له تبريزي فليبحث له تبريزي، فالحياة بغير التبريزي سماء بلا شمس!

محتوى مدفوع

محاكمة سيدة حاولت إدخال كميات من الحبوب المخدرة للبلاد

ظل ذلك السؤال يؤرقني حتى ظهر يوم ٢٥ يناير ٢٠٢٣. في ذلك اليوم الماطر، والسماء ملبدة بالغيوم، صعدت روح إمرأة بسيطة من غمار الناس، لم تنل من التعليم سوى نذراً قليلاً، لم ترتد المدارس والجامعات، ولم تقرأ الكتب ولم تسمع طيلة حياتها عن سقراط ولا إبن رشد ولا إبن سيناء ولا كانط ولا نيتشه. كما أن قصة جلال الدين الرومي مع أستاذه التبريزي لم تطرق مسامعها. وفي تلك الظهيرة، والجسد البارد مستلق على فراش المستشفى، والعيون مفتوحة شاخصة إلى السماء في خشوع و جلال، بدت لي جدران المستشفى البيضاء متشحة بالسواد تشارك السماء المكفهرة سوادها. أين إحتجبت شمس ذلك اليوم؟ مالها تحاكي شمس حياتى التي أبحث عنها؟ لن أنسى ما حييت النظرة الأخيرة التي رمقتني بها، لم تكن نظرة وداع، كانت نظرة من نوع لا أعرف له وصفاً، صارمة ؟ لا ، واجمة؟ لا، تذكرت في تلك اللحظة عبارة ” هذا فراق بيني وبينك” وكأنها تقول سأنبئك الآن بما غاب عنك…

في تلك اللحظة فقط إلتمع في ذهني خاطر كأنه البرق، التبريزي الذي أبحث عنه هو ذلك الجسد الذي فارقته الروح للتو…أستاذي الذي كنت أبحث عنه كان إلى جواري لكنى لم أنتبه. لم يكشف لى عن نفسه، وكأنه كان يريد أن يترك لي حرية التتلمذ على أساتذة آخرين. في ذلك اليوم رحل التبريزي الذي كان شمس حياتي الحقيقية.

صحيح أن آينشتين علّمك معادلات الجاذبية الكونية؛ وإبن خلدون علّمك سنن الإجتماع؛ وعن الجاحظ أخذت فلسفة العربية؛وقودل كشف لك عن النقص الجوهرى في الرياضيات؛ ومن إبن عطاء الله السكندري تعلّمت بعضاً من أسرار الوجود؛ والرومي فتح عينيك على عالم الملكوت، ونيتشه وكانط وماكس فيبر وغيرهم كلهم علّموك، لكن كل واحد منهم كان طوراً من أطوار حياتك تجاوزتها كلها. أما التبريزي الذي لم يفارقك ولم تفارقه إلا يوم إختاره الله إلى جواره يوم ٢٥ يناير، فهو تلك المرأة البسيطة. هي التي علّمتك العلم الذي ليس مسطوراً في الصحائف والكتب: العلم الإلهى.

تلك المرأة البسيطة كانت معلمي الذي أخذت عنه النزر اليسير من العلم الإلهى. من أجل ذلك أبكيها بدموع من دم، لأني لم أكن أعلم أنها نافذتي إلى السماء. ليتني علمت أنها التبريزي، ولو علمت لجلست تحت أقدامها أنهل من ذلك العلم الذي لن أجده في كتاب.

كرر جلال الدين الرومي فى كتبه أن الله يقول: يا إبن آدم تجدني

عند المنكسرة قلوبهم. لم أفهم معنى هذه العبارة، وكنت أقول في نفسي: لِمَ لا يجبر الله القلوب المنكسرة ويضمد جراحها، وهو القادر على كل شئ؟ ظللت أفكر في تلك العبارة حتى بدا لي معناها من خلال مواقف تلك المرأة التي كانت تهرع إلى كسيري القلوب وتتوجه إليهم بكلمات لم أكن أنصت إليها. ماذا كانت تقول لهم؟ لماذا كانوا يبسمون حين يرونها؟ أكانت تطلعهم على سرّ أم كانت تنقل إليهم وعداً أو عهداً؟ لماذا أحبوها؟ ماذا كان بينها وبينهم؟ أكانت تلاقي الله عندهم وتخاطبه؟

في لحظة واحدة تداعت الأحداث والمواقف و أضاء عقلي بجواب الأسئلة التي ظلت ترافقني بغير جواب. لم يكشف لي التبريزي عن نفسه إلا يوم رحيله!

إذا كانت دنياي مدرسة كما تبين لي، فكيف تكون بدون معلم؟ بل كيف تقوم دنياي بغير تعليم؟ تلك المرأة البسيطة، شبه الأمُية، التي لا تختلف في أي شيء عن نساء بلادي الطيبات اللاتي جُبلن على التضحية والعطاء، هي أمي.

أريد أن أدعو لها، لكني لا أعرف ماذا أقول، أأدعو للأم أم للمعلم أم لباب السماء الذي أنسدّ برحيلها؟ ماذا يكون دعائي إلى جوار دعاء المنكسرة قلوبهم الذي لم يتوقف منذ إنتشار نبأ الرحيل.

كانت معلمي طيلة حياتي، لكن موتها كان أهم دروسها وأقيمها. لعلها إختارت أن يكون الدرس الأخير هو العهد والوصية. إختارت لحظة رحيلها لتكشف لي عن حقيقة دورها وعصارة دروسها. وإذا كنت قد عثرت على جواب لأسئلتي القديمة برحيلها، فإنني اليوم أمام سؤال جديد، لا أظن أنني سأجد له جواباً: كيف ستكون الحياة بعد غروب شمس التبريزي؟

د محمد عبدالوهاب جلال

سطر فوق العادة:

ألحقوا أمهاتكم وآباءكم قبل فوات الأوان …والدوام لله أخي د محمد ولأسرتكم جميعهم حسن العزاء…لن تغيب الشمس بإذن لله طالما بر الوالدين قبل و بعد مماتهما واصلاً..

ثق أن الله سيجبر بخاطر القلوب المكسورة الموجوعة طالما عمل ونشاط البر واصل… ولو بعد حين.. إن الله كريما

(إن قدر لنا نعود).

صحيفة الانتباهة