مقالات متنوعة

عادل عسوم | في لُجَّةِ الأنوار، مابين الإراءة والرؤيا!


عندما ماتت أمنا خديجة بنت خويلد رضي الله عنها؛ ضاقتْ الدنيا بالنَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، ولأنَّ الله يعلم حزن نبينا صلى الله عليه وسلم على فقد خديجة كانت حادثة الإسراء والمعراج، أخذه ربه إلى السماء ليعزّيه بما فيها، فالكرة الأرضية بمارحبت لاتصلحُ أن تكون ساحة للعزاءً لمن هو في مقام خاتم الانبياء…
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى، الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ، لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}…
الله جل في علاه يقول عن نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه:
(لِنُرِيَهُ) من آياتنا، بينما في آيات سورة النجم فانه تعالى يقول عن نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه:
(لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ)…
هنا ينبري السؤال!
كيف يكون الأمر (اراءة) لنبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه في آية سورة الاسراء بينما هو في سورة النجم قد (رأى) بنفسه؟!
وآي القرآن ولفظه لا يأتي جزافا، انما كل لفظة تحقق مرادات لله بعينها دونما اخلال وبدقّة متناهية!…
إنه الاعجاز اللفظي للقرآن، والذي كتب عنه كثر منهم ابن الباقلاني وابن الجرجاني وصاحب الظلال رحمهم الله.
استهل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله: {سبحان} ليتحدث عن هذا الحدث العجيب المدهش، وهو حدث تقف الـعـقـول بين يديه حيرى وسبحان لغة تعني التنزيه، فإن قال الله تعالى {سبحان} فذاك يعني تنزيهه لفعله عن أفعال البشر، ولنتبين بأن قانون الله سبحانه وتعالى ليس كقانون البشر في الفعل، والحدث كله منسوب إلى الله، فالذي أسرى هو الله سبحانه وتعالى، والذي أسري به هو نبينا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم.
أمسك جبرائيل بخطام البراق والكون يأتلق بوضاءة تحيل ليل مكة البهيم إلى أنوار تتلألأ بين يدي سفر قاصد عجبب؛ يستخف المرء بين يديه الاتيان بعرش بلقيس قبل أن يرتد طرف سليمان عليه السلام!، والسفر رحلتان، اولاهما على أديم الأرض (اسراء) يضم المسجد الأقصى إلى مقدسات دين كتب الله الهيمنة على دين ابراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، وهي رحلة تضرب إليها أكباد إبل قريش شهراً، لكن الله تعالى يختزل لأجلها الزمن ويبطل قانون المسافة فيصبح الأمر عصيا على القياس لقريش، وسألوه عن تفاصيل بيت المقدس فوصفه لهم، ثم وصف لهم احداثا رآها في طريق عودته فتربصوا بالقوافل العائدة ليجدوا ماحكى عنه الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم حقائق وشواهد.
يقول الله تعالى وهو يتحدث عن الاسراء -الأرضي- {لنريه}، ولكن حينما يعرج نبينا إلى السماء ليلتقي بالرسل والأنبياء الذين ماتوا، وكذلك يلتقي بالملائكة؛ يستلزم ذلك أن يتغير شيء في ذاتية محمد صلى الله عليه وسلم، وان كان الشيخ الشعراوي رحمه الله قال في ذلك:
(كأنه صلى الله عليه وسلم طرح البشرية وأخذ شيئا من الملائكية التي ترى بنفسها).
لكنني أقول:
إن حادثة شق صدر نبينا صلى الله عليه وسلم التي سبقت طالما كانت (مادية) وملموسة، فإن المترتبات عليها قمن بها ان تكون أيضا مادية وملموسة، لا كما ذكرت التفاسير بأن الغاية من شق صدر نبينا صلى الله عليه وسلم أمر معنوي هو تطهيره من حظ الشيطان في قلبه، ولقد افردت لذلك مقالا بعنوان (فهم مغاير لحادثة شق صدر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم)، ولعل ورود أحاديث صحاح عن شق لصدر نبينا صلى الله عليه وسلم لأكثر من مرة، آخرها قبيل حادثة الاسراء والمعراج؛ له وصل بذلك والله أعلم، فالقدرة على الابصار واستيعاب ما رآه نبينا صلى الله عليه وآله وسلم عند عروجه إلى السماء تحتاج إلى تهيئة -مادية- قبلية تمثلت في شق صدره صلى الله عليه، دعك عن رؤية جبرائيل عليه السلام على هيئته الحقيقية!
يعرج نبينا صلى الله عليه وسلم إلى السماء، ثم يصل إلى سدرة المنتهى، {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)}
ياااااه
عن أنس بن مالك رَضِي الله عنْهُ في حديث الإسراء والمعراج الطويل، وفيه أنه صَلَى اللهُ عَليهِ وَسلَّم قال: «ثم عرج إلى السماء السابعة. فاستفتح جبريل. فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صَلَى اللهُ عَليهِ وَسلَّم. قيل: وقد بُعِث إليه؟ قال: قد بُعِث إليه. ففُتِح لنا. فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام، مُسندًا ظهره إلى البيت المعمور. وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه. ثُم ذُهِب بي إلى سِدرة المُنتهى. وإذا ورقها كآذان الفِيلة. وإذا ثمرها كالقِلال. قال، فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت. فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها»
رواه مسلم
وقف الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم في لجة الأنوار، ومازاغ بصره الشريف وماطغى، وتهيأ لكلام الله المباشر وقد بلغ في مراتب خلق الله اسماها، فخضعت له احتشادات الأنوار، وتهيأ لسماع كلام الله دون واسطة، وتهيأ إلى الرؤية على الخلاف فيها.
وقف نبينا صلى الله عليه وآله وسلم مكشوفة عنه الحجب، ومزاحة عنه الأستار، ليتلقى من الملأ الأعلى، فيسمع ويرى، ويحفظ ما وعى. إنها لحظات خص بها نبينا صلى الله عليه وسلم دون أحد من عباد الله، فإن تكلم ربنا مع موسى عليه السلام عند جبل الطور؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قد رقى به إلى حيث سدرة المنتهى، وبين يدي عرش الرحمن وجنة المأوى!، ويمن الله تعالى علينا فيصف لنا هذه اللحظات وصفاً موحياً مؤثراً في سورة النجم.
ويعود الحبيب إلى فراشه منشرح النفس وقد تأسى بمواساة الله تعالى، وأتانا بصلاة اصبحت عمودا لهذا الدين القويم وسناما له، لتكون الملجأ والملاذ كلما ادلهمت علينا الخطوب والأحزان.
صلى عليك الله يانبي الهدى ماهبت الأنسام وماهدل على الأيك الحمام.

صحيفة الانتباهة