ياسر أبّشر: تعازيّ سعادة الفريق البرهان
قال لي إسلامي أعرفه إن فلاناً كان زميلي في العمل وكان صديقي لربع قرنٍ من الزمان ، ما أقمت وليمةً إلّا وهو حاضرها . وكان يبدو لي حريصاً أشد الحرص على علاقتنا ، بل كان حريصاً أن يظل إبني صديقاً لابنه ، ويقول إن ابني مهذب ويخاف على إبنه من أصدقاء السوء .
يواصل الرجل روايته قائلاً :
ولكن بعد ( الثورة ) وقيام حملة شيطنة الإسلاميين ، فوجئت بصديقي لعقود يسبني في الوسائط ، و لن تتخيل صدمتي وخذلاني !!!
قلت له : إن الله أراد بك خيراً ، إذ مَازَ لك الخبيث من الطيب . وقد يُنْعِم الله بالبلوى وإن عظمت .
تذكرت هذه القصة وأنا أقرأ خبراً يقول إن البرهان منع البشير من تشييع جثمان شقيقه محمد ، بعد أن منعه قَبْلَاً من تشييع زوجته وأمّه وشقيقه اللواء دكتور عبدالله . فعلها للمرة الرابعة !!!
حدثني من لا أتّهم أن نَفَراً من علية القوم إلتقوا برهان العام الماضى وطلبوا منه إطلاق سراح البشير كونه قائد الجيش ، على أقل تقدير . وعلمت أن موسڤيني وعدد من الرؤساء الأفارقة طالبوه بمثل هذا .
كانت حجة البرهان لوفد الزعماء السودانيين الذين التقوه ، أن انقلاباً سيقع ضده في نفس يوم إطلاقه سراح البشير !!!
في الحقيقة ، فالبرهان بسجنه للبشير ، وبمنعه من تشييع موتى ذويه ، يتصرف كذلك الأحمق الذي يظن أنه لو أطفأ قناديل الآخرين سيبقى سراجه أشَدُّ توهجاً !!!
وبات جليّاً من مثل هذه التصرفات أن الله أعمى بصيرة البرهان ، أو أنه أحاط نفسه بمن طمس الله بصائرهم. ذلك أن الجماهير تقيس الزعماء بآثارهم وحُسن صنيعهم ومآثرهم ، وأنها تَعِي جيداً الكَيْد والمَكْر ، ومن تحركه صغائر الأمور .
والمقارنة مُنْتَفِية بين ما أنجز البشير وعجز البرهان في كل مجال .
لا يُدرك البرهان أن ثورة تعتمل في القلوب ضده ، وهو مَحَطُّ البُغض والرفض ، لما شاع في عهده من انعدام للأمن حتى باتت تسعة طويلة تنهب الناس في قلب الخرطوم ، وحتى أصبح الدعم السريع يروّع سكان العاصمة . ولما عانته الجماهير من فقرٍ وعَوَز . البرهان يصنع ثورته المضاده بنفسه ، لجهله بما قال به الحكماء منذ آلاف السنين .
فعن أرسطو أنه قال :
” إن الفقر هو والد الثورة والجريمة ”
Poverty is the parent of revolution and crime.
وشتّان بين حالنا في عهد البشير وجوعنا مع البرهان . شتان بين تِبْر البشير وتُراب البرهان .
وينسى البرهان أنه أفقدنا سيادتنا ، يوم أن جَثى على ركبتيه أمام بن زايد يبتغي عنده الوسيلة ، فهان السودان على بن زايد وعلى السفراء الأجانب بل على كل الأجانب . فقدنا معه عزتنا وكرامتنا . قال أحد الحكماء :
” من الأفضل أن تموت واقفاً على قدميك من أن تحيا جاثياً على ركبتيك ”
It is better to die on your feet than to live on your knees.
ورغم أنه بلا رؤية لكنه لا يخجل من أن يتحدث عن ( الثورة المجيدة ) فهو لا يدرك أنه وكما قال لينين :
” لا يمكن قيام حركة ثورية بلا نظرية ثورية ” والحكمة ضالة المؤمن وأولى بها حتى لو جاءت من قِبَلِ لينين .
أمّا أن تمنع البشير من تشييع زوجه وأمّه وإخوانه الإثنين ، فذلك ما لا يرضاه الخُلُق ، وما يَنِدّ عنه طبع الكرام . وذلك سلوك من فقد ضميره ، ومن تَنَكر لِقِيَمِنا وتقاليدنا . هذا لا يصدر من إنسان مؤهل لزعامة وقيادة ، بل هو سلوك الصغار الضعفاء المرتجفين .
صلاح أَمرِكَ لِلأَخلاقِ مَرجِعُهُ فَقَوِّمِ النَفسَ بِالأَخلاقِ تَستَقِمِ
وَالنَفسُ مِن خَيرِها في خَيرِ عافِيَةٍ وَالنَفسُ مِن شَرِّها في مرتع وخم
وبعد أن صرت مُضَيّعاً لكرامة وسيادة السودان يا سعادة الفريق ، وبعد أن جوّعت شعباً عزيزاً حتى فرّ بالملايين إلى مصر وسواها ، وبعد أن أفقدتنا أمننا ، ها أنت ذا – بما صنعته في عزاءات البشير – أصبحت أكبر مهددٍ لقيمنا وتقاليدنا ، وأتيت من مُنحط السلوك ما لم تستطعه الأوائل .
ليتك طغيت وتجبّرت كما يتجبّر الفرسان ، لكنك أخْلَدت إلى الأرض فصرت ترابا . لكني أتساءل :
من أي طينة أنت ؟؟ أولاد القبائل لا يفعلون ما تفعل .
كان البشير يِشيع جثامين خصومه السياسيين. فقد شيع نُقُد وأمّ المصلين على جنازته ، وشيع أحمد الميرغني ومحمد وردي ، وعزى في وفاة فاطمة أحمد إبراهيم. رحمهم الله .
وحين توفي شيخ أبو زيد – شيخ أنصار السنة – أفتقد البشير في المقبرة نجله ، فلما أُخبر أنه بالسجن بسبب اتهامه بقتل الخواجة قرانفيل أمر بإحضاره . ولما جيئ به يرسُف في أغلاله أمر بفك أغلاله ليواري جثمان والده الثرى .
وهكذا يفعل النبلاء .
يا سيدي الفريق : أين الإنسانية فيما فعلته مع البشير في موت أعزائه ؟
وماذا يمكننا أن نقول لأطفالنا من تبرير لما أتيت ؟؟
وأنت يا سيادة الرئيس البشير أحسن الله عزاءكم وغفر لموتاكم .
ولتسمح لي يا برهان لأعزيك أنت أيضاً في فقدك للقيم الرفيعة والخلق الرفيع ، ولأعزيك فيما جُرّدت منه من إنسانية . جبر الله كسركم .
ياسر أبّشر