رأي ومقالات

فنون تحطيم الأذكياء


تَبرَعُ المجتمعات المتخلفة في فنون تحطيم أفرادها الأذكياء.
ولا غرو فكل فرد في هذه المجتمعات المتخلفة خفير على التخلف؛ يحرسه ويحميه ويرعاه.
وإذا سطع نجمٌ ذكيٌّ فوق الناس سَرعان ما رمقوه بنظر شذْر وعدُّوه منحرفا عن السرب ومهددا لأمنه وبددا لسكونيته الخالدة.
وشنوا عليه حلات النكير والتشهير، واتهموه بالتعالي والسعي إلى التميز والتفرد وحب (الفلهمة) وربما ممارسة (القرضمة) علاوة على كذلك.
وربما اتهموه بحب الاستطلاع الزائد وهو الفضول أو التطفل والاهتمام بنوافل الأمور ومحقرَّاتها وأصبح لهذا عرضة للتندر والسخرية.
***
وقد كنت أعجب قديما من تندر البعض وسخريتهم من اهتمام أحد علماء بلادنا بالبحث في أسرار بيض البعوض.
ولم أر لتندر من تندروا منه ولا سخرية من سخروا منه من مسوِّغ، فلم يكن الرجل فضوليا وإنما عالما ذا حس اجتماعي وطني.
وقد اهتم بالبحث عن أمضى الوسائل لاستئصال البعوضة التي تفتك بهؤلاء المتندرين الساخرين.
***
وإذا وضعنا في الحسبان أن الأفراد الأذكياء عادة ما يتصفون بالحساسية الذاتية؛ أي أن إحساسهم بذواتهم يكون عاليا، لأدركنا حينئذ كم تفعل فيهم عبارات السخرية والتبكيت ونوازع الحسد المقيت.
وطبيعي أن يتوقع الأفراد الأذكياء أن يهتم بهم الناس من حولهم، وأن تهتم بهم حكومات بلادهم كما تفعل حكومات البلدان المتحضرة.
ولما لا يجدون شيئا من ذلك الاهتمام المستحق، ربما اتجهوا إلى الانزواء والضمور الاجتماعي، فيبادلون مجتمعاتهم الشعور السَّلبي ذاته.
***
وقد تتطور النظرة السلبية الحكومية إلى الأفراد الأذكياء، عندما تعمد بعض الحكومات المتخلفة إلى توزير بعض الأفراد الأذكياء، وتوسيد المناصب العلية لهم، ثم تعاملهم بالإذلال والتحقير.
وقد رأينا أمثلة لذلك في حكومات عهود مضت.
وفيها انتقم طَغام الجهلة شر انتقام من الأذكياء الناهضين.
***
ومن فنون تحطيم الأذكياء ترصُّد الأغبياء لهم ليحصوا عليهم أخطاءهم، وليشهِّروا بها، بل ليعرِّفوهم بها؛ وكأنهم ما فعلوا خيرا، أو أصابوا صوابا قط.
وبالطبع فليس من العدل أن نُعرِّف الناس بأخطائهم.
ولا يدري الأغبياء أن أخطاء الأذكياء هي من قبيل الأخطاء النافعة.
وليس خطأ الشاطر بعشرة كما يدعون!
فقد أجرى المخترع الشهير توماس إديسون أكثر من أربعين تجربة لاستخراج المطاط الطبيعي وأخفق فيها جميعا.
وقال له شخص ساذج: ها أنت تعيد الخطأ أكثر من أربعين مرة في موضوع واحد.
فأجابه قائلا: كلا إنها ليست أخطاء، وإنما نتائج سَلبية تحرز تقدما في البحث العلمي عن الغرض المنشود، فإن أحدا من الباحثين أو المخترعين لن يعيد إجراء هذه التجارب ذاتها، وإنما سيتخطاها ليبحث في الموضوع من نواح أخرى!
***
ومن فنون تحطيم المفرطين في الذكاء والجدية (أي العباقرة) اتهامهم بصفة الجنون.
وبالطبع فلا أحد يستأنس بالمجانين، ولا أحد يريد أن يستثمر فيهم!
ومن فنون تحطيم الأذكياء تبرُّم بعض الأساتذة بهم، وتضجُّرهم من أسئلتهم، وقيامهم من ثم بصدِّهم، وربما تبويخهم وزجرهم أمام زملائهم.
ومن فنون تحطيم الأذكياء تألب أقرانهم عليهم ومطاردتهم للإيقاع بهم.
وقد كانوا في الأجيال الماضية ينكلون بالأول يوم تقسيم النتائج في آخر العام الدراسي تنكيلا مروعا.
وربما تجاوز الأمر حدَّ الإيذاء البدني، فساقوا الطالب المتوقد الذهن إلى محنة ساحقة فسحقوه، كما فعلوا بالتيجاني يوسف بشير.
***
ومخطئ من يظن أن التنكيل قاصر على عهد الطلب، فهو سيرافق الفرد الذكي أينما حلَّ في مجتمعات التخلف المستوطن والمستدام.
فعندما يكبر (الذكي العبقري) ويوظف في الدولة، ستحاصره البيروقراطية الصماء التي تفترض – زيفا – أن الناس كلهم متساوون، وأنهم ينبغي أن يعاملوا – إداريا ومهنيا – على السَّوية.
وستقتل هذه البيروقراطية الغبية كل مبادرة ذكية تنبع من العقول الملهمة الذكية، ولا تتفهمها الإدارات العليا غير الملهمة وغير الذكية.

محمد وقيع الله