محمد عبد الماجد

محمد عبد الماجد يكتب: حافظوا على نظافة قلوبكم

قبل سنوات عندما كنا نزور الخرطوم ونحن اطفال، كانت الخرطوم تدهشنا وكنا نجد متعة في تلك الدهشة اتساقاً مع الشاعر عمر الطيب الدوش (يجيني زمن ..امتع نفسي بالدهشة) كنا نعتبر ذلك قمة (الترف) ان نختص بحق المتعة بالدهشة. والدهشة عندنا وما زالت حالة من (الشرود الذهني) الذي يصل حد ان تفتح (خشمك) مذهولاً ، او هي بتعريفنا المحلي (خلعة) حميدة ، اظن ان الدوش شرعن متعتها فجعلها شعوراً (حضارياً) وقد كنا نحرص على ان نخفي (دهشتنا) وكنا نشعر حيالها بالحرج وكأنها تكشف بداوتنا.
استدرك الآن واقف والحديث عن الخرطوم وليس عن الدهشة .. ما زلنا نعاني في كتاباتنا من الخروج عن الموضوع ، اهل المسرح يسمونه خروج عن النص وقد كانت اروع تجليات عادل امام تتمثل في خروجه عن النص وكان جمهوره ينتظر خروجه هذا بفارق الصبر ، وكان اشهر (الخوارج) على خشبة المسرح سمير غانم.
لا اخرج مرة اخرى عن الموضوع والحديث عن الخرطوم التي كانت مثل طفلة في صباح العيد مبتهجة بلبستها الجديدة وتسريحتها (ضنب الحصان).
الخرطوم كانت كذلك في حلة باهية .. كانت شوارعها نظيفة كأنها تغتسل عند كل صلاة .. وكان انسانها راقياً ومتحضراً .. انسان العاصمة كان يختلف عنا نحن ابناء الاقاليم .. كان يختلف في لبسه وكلامه وثقافته وكتابه الذي يحمله في يده. الفروقات بيننا وبينهم كانت كبيرة وكنا نحترم فيهم ذلك.
حتى نظاراتهم الطبية كانت تختلف عن نظاراتنا الطبية المحدبة.
كنا نأتي للخرطوم فنروح عن الانفس فيها بحدائقها الجميلة وحفلاتها النهارية ومتنزه المقرن وحديقة الحيوان . لافتات الاطباء في الشوارع واسماء المحلات التجارية كنا نقف عندها ونحاول ان نحفظها ظناً منا ان هذا الامر يرتقي بنا الى مراق عاصمية.
(2)
الخرطوم الآن تحولت الى ثكنة عسكرية كبيرة ..الكل فيها يترقب (ساعة الصفر) .. التوجس والظنون واغلاق كوبري المك نمر بالحاويات وانقطاع التيار الكهربائي وخطاب جديد لحميدتي!!
ونحن طلبة كنا نطارد حفلات عقد الجلاد ومسرح فرقة الاصدقاء وكنا نقرأ لعلي المك وصلاح احمد ابراهيم وابو امنة حامد.
كنا نستمع لندوات محيي الدين الفاتح الشعرية ونجالس سعدالدين ابراهيم وفضل الله محمد. كنا نزور محجوب شريف وهاشم صديق.
كانت الخرطوم تتحفنا وقد كنا نختم اسبوعنا بمباراة للهلال نشاهد فيها كل الدهشة.
الخرطوم الآن تترقب خطاب حميدتي وردة فعل البرهان التي تنعكس مباشرة على كوبري المك نمر بالاغلاق التام.
(3)
يخيل لي ان الخرطوم فقدت رونقها يوم ان اغلقت حديقة الحيوان .. اصابتنا لعنة (اسدها) الذي هاجر للخليج بفيزا (قرد).
اضحت الفوضى وعصابات تسعة طويلة تسيطر على اماسي العاصمة التي كانت ابرز ملامحها والخرطوم (بليل) سينما كلوزيوم والحلفايا والنيل الازرق والوطنية.
كانت ألحان بشير عباس تجعل سنابل القمح ترقص على اغنيات البلابل كالعصافير الخريفية .. وكانت اذاعة ام درمان تبث اغنيات اسحاق الحلنقي كالفراشات.
النشاط الثقافي كان في جامعة القاهرة فرع الخرطوم مثل الدوري الاسباني ( La Liga) والنشاط السياسي كان في جامعة الخرطوم مثل الدوري الإنجليزي ( Premier League).
(4)
بغم
لا اقول لكم نظفوا مدينتكم…
لكن اقول لكم نظفوا قلوبكم !!
اعيدوا لنا الخرطوم كما كانت خالية من الوجود العسكري.
وكل الطرق تؤدي الى (المدنية).

صحيفة الانتباهة