مقالات متنوعة

عادل عسوم يكتب.. من وحي رمضان 1444 (1)


اليوم الأربعاء ختام شعبان، وغدا إن شاء الله الخميس 23 مارس2023 يهل على الكرة الأرضية شهر رمضان، نسأل الله الكريم أن يمد في آجالنا لننعم بأنواره ونفحاته.
هذه سلسة مقالات اعتدت كتابتها على مدار أيام الشهر الكريم خلال السنوات الماضية، لكنني هذا العام انتويت الابتدار بمقال ترحيب يسبق الشهر بيوم، والمقال بعنوان:
رمضان ومنهجية التغيير.
البعض منا عندما تسأله لماذا تغضب بهذه السرعة وتثور، يقول لك:
ياخي دا طبعي الاتولدت عليهو وحأموت عليهو!…
وكذلك الذين اعتادوا التدخين أو تعاطي التنباك وغير ذلك من افعال وسلوكيات سيئة يوقنون في قرارة انفسهم بخطئها وسوئها وكونها غير مرضي عنها من الله ومن الناس؛ لكن تجدهم يستسلمون لها ويستكينون، وينهزمون أمامها ويسكنهم العجز عن تغييرها والانعتاق عنها، ويتراكم هذا الشعور بالعجز حتى يصل فيهم حد اليأس، ويسيطر عليهم الاستسلام التام وجدانا وحراكا…
وكل ذلك بسبب ضعف التقوى بل وانعدامها أحايين، ولكن بحمد الله لقد وهبنا الله الرحيم بنا فرصة للتغيير، إنه الصوم الذي فرضه ربنا على كل الأمم من قبلنا وان اختلفت تفاصيله لديهم، يقول الله الرحيم بعباده: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} البقرة 183، وقوله {{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} تعليل لفرضية الصيام ببيان فائدته الكبرى وحكمته العظمى وهي (تقوى الله)، هذه التقوى التي سأل عنها أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه الصحابي الجليل أبي بن كعب رضي الله عنه، فقال يا أمير المؤمنين: أما سلكت طريقا ذا شوك؟ قال بلى، قال فما صنعت؟ قال شمرت واجتهدت -أي اجتهدتُ في توقي الشوك والابتعاد عنه-، قال أبي فذلك التقوى.
فالتغيير يحتاج إلى إيمانيات روحيّة عالية، وصحة بدنية قوية بتطوير جهاز المناعة الذاتي، ويحتاج إلى صحة نفسية نتاج صبر يعين على التحمل، ويحتاج إلى احساس مرهف بحال الفقراء والمساكين من حولنا، ويحتاج إلى شخصية قوية لاتطغيها المادة ولاتركسها النعمة وكثرة المال، ويحتاج إلى روح وثابة موصولة بالسماء من خلال تلاوة آي الله خلال النهار والقيام في الليل، ويحتاج إلى عقلية يلزمها الانقطاع قليلا عن الدنيا فلاتجعلها أكبر الهم، ويحتاج إلى مهارات ايمانية متنوعة ومتنامية يكتسبها المرء طوال شهر على الأقل.
كل ذلك وأكثر نجده في شهر رمضان…
إنه شهر التغيير حقا، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، لاحظ أن كلام الله هنا عن (قوم ومجتمع)، فالكلام عن الجماعة؛ لكن المراد كل فرد منا!…
يأتي رمضان فرصةً سانحة لتغيير النفس من عادات مستعبدة، وسلوك غير مرضي عنه عبر خطوات عملية بسيطة، يستطيعها كل جاد في سبيل تغيير نفسه وعازم على مجاهدتها، ومن تيسير الله أن جعله الله شهرا يتشاركه كل المسلمين، فيجد الصائم من يعينه ويتشارك معه الصيام، ولو كان الصيام لكل فرد على حدة لثقل على الناس وصعب أمره…
نصوم لله بالنهار، وفي نهارنا نتعهد المصحف فنتلو كلام الله، ونتصدق ونزكي، وما أن توشك الشمس على المغيب إلا وتجد البروش قد فردت في الطرقات أمام البيوت، وتلك محمدة حبانا الله بها في هذا السودان الجميل وأسأل الله أن لاتموت، وبعد الافطار نصلي التراويح في جماعة في خلاوينا وزوايانا ومساجدنا، ثم نتهجد، وبذلك تتغير حياتنا التي عشناها خلال أحد عشر شهر مضت، من هنا يكتسب المسلم مهارات إدارة الذات والتغيير والتطوير.
رمضان في حقيقته ثورة عظيمة ضد الشهوات والعادات، فهو فرصة سانحة لكل من أراد أن يحدث تغييرا في نفسه، فيتوب ويرجع إلى الله، وتلكم والله لأعظم ثورة يحدثها العبد في حياته، ثورة ضد نوازع الشر فيه، ثورة ضد وساوس الشيطان ونزغاته، فيتخلص من القيود المعوقة التي تعوق سيره إلى الله.
إن الصيام بالشروط التي حددها الله ورسوله يمثل مدرسة حقيقية ودورة تدريبية لتعلم الأخلاق والسلوك، لنتأمل حديث نبينا صلى الله عليه وسلم حين قال: (فإذا كان يوم صوم أحدِكم، فلا يرفثْ ولا يصخبْ، فإنْ سابَّه أحدٌ أو قاتَلَه، فليقُلْ: إنِّي امرُؤ صائم) مُتفَق عليه.
هذه الفقرة من الحديث مخصصة لتعليمنا الأخلاق والسلوك، وتدريبنا على تغيير أخلاقنا السيئة إلى الأخلاق الحسنة، وعباد الله المتقون الصادقون يحرِصون على طاعة الله ورسوله، يسعون إلى انقضاء اليوم من أيام الصيام دون رفث ولا صخب، ولا حتى الرد على من سب أو شتم وإن هدَّدهم بالقتال، سبحان الله… يمكن للإنسان أن يصبر على أن لا يصخب ولا يؤذي الناس ولا يظلمهم؛ لكن أصعب مِن ذلك أن يصبر ويمسك نفسه عن الرد على من اعتدى عليه بالسب والشتم، والأصعب من ذلك جدا أن يصبر على من اعتدى عليه باليد، وحديث نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك واضح المعنى والدلالة، إنها مجاهدة النفس والتغيير يا أحباب…
رمضان شهر اختصه الله بقوله (الصوم لي وأنا أجزي به)، وهو اعلان بفضل الصيام على سائر الفرائض، الصوم فريضة توسع الصدر وتقوى الإرادة وتزيل أسباب الهم وتسمو بصاحبها فيكبر المرء فى عين نفسه ليصغر حينها كل شئ فى عينه، إنه حالة من السمو الروحي لا يبلغها إلا الذي يتأمل حكمة الله من وراء هذه الفريضة وهي التقوى.
والصوم وجاء للشاب بمثابة الزواج، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ولقد تبن العلماء والأطباء فوائد صوم المسلمين، بل كان سببا لاسلام بعضهم، وها نحن نجد الكثير من الأبحاث العالمية تنصح بالتدريب على كبح الشهوة والسيطرة على الرغبات بالصوم، فهناك العشرات من المؤسسات ومراكز البحوث والمراكز الطبية تتخصص في العلاج بالصوم ومنها: الجمعية العالمية للصحة، وجمعية الطبيعة والصحة بكندا، والجمعية الأميركية للصحة الطبيعية.. هذا فضلا عن عديد من الجمعيات والمراكز في أوروبا، وكذلك في آسيا (اليابان والهند والصين).
اللهم بلغنا رمضان واعنا على صيامه وقيامه، واجعلنا من المتقين، اللهم أصلح لنا نفوسنا وزكها انت خير من زكاها، اللهم أعن كل مبتلى على التوبة الصادقة والتغيير إلى الصلاح والاخبات إليك، اللهم أصلح لنا بلدنا واكفنا شر كل متياسر يدعو إلى فصل دينك، انك ياربي ولي ذلك والقادر عليه.
وإلى المقال الثاني بحول الله.

عادل عسوم
صحيفة الانتباهة